بات الواقع السوري في الآونة الأخيرة أكثر انكشافًا، وخاصة مضي ثماني سنوات على انطلاق ثورة الحرية والكرامة أواسط آذار/ مارس 2011، وأصبحت مسألة تمظهر الهويات الفرعية لأفراد أو مجموعات، والمقصود بهذه الهويات هو النزوع الفردي والجماعي؛ لتعريف الذات أو الجماعة بانتمائها إلى طائفة أو قبيلة أو منطقة بعينها، والنظر إلى الآخرين (الشركاء في المجتمع) بالمنظور ذاته؛ باحتسابهم ذوي انتماءات من هذا القبيل.
حيث تدخلت هذه الهويات (التي يمكن تسميتها أيضاً هويات صغرى) في وعي الكثير من الأفراد والمجموعات، محل الهوية الوطنية الجامعة، وفي أضعف الأحوال تقدمت وطغت عليها أحيانًا وأقصتها، كما حلت محل الروابط المدنية؛ كالانتماء إلى مهنة أو نقابة أو حزب أو جمعية.
في غير مكان من سورية فإنه يُلحظ بروز هذه الظاهرة، وخاصة عبر المناسبات التي يتم فيها استنفار الناس وتحشيدهم، ومن الملفت أن الظاهرة أخذت تتبدى أيضًا وقبلاً لدى دول ومجتمعات عرفت بروابطها الاجتماعية المتقدمة، وبغلبة الارتباط بالوطن والدولة على أي ارتباط آخر، كحال مصر التي تبرز فيها أيضًا ظاهرة الروابط العائلية والمناطقية، ناهيك عن وضع العراق فقد شاعت مفاهيم المناطقية والجهوية والقبلية والطائفية في الحقبة الأخيرة، ويبدو أن الخارج هو من يؤسس لذلك، ويعمل جاهدًا على مبدأ المحاصصة المحلية والطائفية، وهذا ينعكس على مختلف نواحي الحياة، وهو ما يسترعي الانتباه والوقوف عنده.
في سورية كان بروز هذه الظاهرة قد تزامن مع شيوع حالة الدفع الطائفي التي يقوم بها النظام الأسدي، مع تصاعد هدير الثورة السورية، أمام عجز النخب عن مخاطبة الجمهور والتأثير فيه، وكذلك عجز مؤسسات الثورة الجديدة والمجتمع المدني ، عن نشر أفكارها ورؤاها وتطبيقها في مفاصل الحياة العامة، وإخفاقها في اعتماد معايير الوعي الوطني ؛ بل إن هذه الظاهرة طفت على السطح، رغم إدراك الكثيرين لخطرها المحدق، في وقت تتذكر فيه الأجيال المتقدمة في العمر، أن المجتمع السوري لم يكن يعرف هذه الظاهرة قبل نصف قرن أو أكثر في مرحلة مقارعة الهيمنة الأجنبية والكفاح من أجل الاستقلال، رغم أن المجتمعات كانت أقل تعلماً، ورغم محدودية وسائل الإعلام آنذاك، ونقص وسائل السفر والتنقل، حيث كانت الهويات الوطنية الجامعة هي الغالبة في وعي الناس، يرفدها انتماء قومي وروحي وإنساني يتعدى حدود القطر الواحد.
إن الهويات الفرعية هذه لم تنبت من فراغ، فالوحدات الاجتماعية من عائلة وعشيرة وقبيلة وطائفة وأبناء منطقة، كانت قائمة وتفعل فعلها في حياة المجتمع والأفراد؛ لكنها لم تكن تؤثر في مسيرة الحياة المجتمعية اليومية، أو حتى السياسية، وهو ما آلت إليه لاحقاً بالتدريج والتراكم؛ نتيجة الإخفاق في مشروع بناء الدولة الدستورية الحديثة، بعد هيمنة الدولة الأمنية، وتفشي (العصبوية) الطائفية، وإفساح المجال من قبل السلطة الحاكمة، لانتشار ظواهر ما قبل وطنية، من طائفية وعشائرية، ومناطقية، وهو يشير أيضًا إلى عجز العَلمانيين والليبراليين والقوميين عن مواجهة موجة الأصولية التي باتت تتغلغل في كل المفاصل، وليست الأصولية الدينية فحسب، بل الأصولية الفكرية، حتى مع وجود فكر يساري، أو أممي، حيث لم تلبث أن تحولت إلى أصولية اجتماعية وثقافية كارهة للمدن والمدنية؛ وهو ما أدى إلى شيوع حالات من النكوص إلى الذات والتقوقع، بفعل جملة العوامل والظروف السابقة، التي تفاعلت، وتغذت بعوامل إضافية؛ مثل الفقر والبطالة والنزوح من الريف إلى المدينة؛ ثم جاءت جريمة العصر وهي التهجير القسري الذي يمارس، أمام مرأى العالم أجمع، ليخرج علينا بعض مدعي الانتماء للمجتمع المدني، فيبرروه، ويحسنوا صورته، ليصبح في منظارهم مجرد (هندسة ديمغرافية) ليس إلا، وذلك جنباً إلى جنب مع شيوع قيم الاستهلاك وبروز حالات الثراء الفاحش في مجتمعات الثورة أو من يعتبرون أنفسهم منها دون وعي!، كل ذلك ساهم في تولّيد مشاعر من الاغتراب النفسي، وجد في الارتداد نحو الهويات الصغرى، شبكة أمان بالنسبة له، وبما أن ظهور هذه الهويات وشيوع الانتماء إليها لم يتم بقرار من أحد أو جهة، لكن مغادرة هذه الانتماءات الضيقة، لن يتأتى بهذه البساطة التي يمكن للمرء أن يتوقعها، خاصة على المدى القصير، فكما أن ظروفاً موضوعية متجددة، كانت قد أسهمت في وضوح هذه الظاهرة وشق الطريق أمامها، كذلك الأمر في التطلع نحو استعادة الانتماء بالهويات الوطنية الجامعة والمنفتحة على المشترك، والمواكبة لبناء الدولة الوطنية، فلن يمكنه أن يتحقق إلا ببناء الدولة الديمقراطية التي تتكئ إلى الوطنية الجامعة المتجددة، والتي تحتكم إلى سيادة القانون والدولة المدنية، وإطلاق مشاريع وطنية ديمقراطية، مع الأخذ بنظر الاعتبار التغيرات العميقة التي طرأت على واقعنا كله، ويبدو أن الشروع بهذه المهمات لابد أن يقع على عاتق النخب، والقوى الفاعلة والواعية، ولابد من اقترانه بوعي مطابق، يُعلي من شأن كل ما هو وطني وجامع ومشترك، وبما يضع الانتماءات الضيقة، ما قبل وطنية في حجمها الطبيعي دون السماح لها بالتأثير على مستقبل سورية الوطن الواحد، والمتوافق على عقد وطني جامع، لكننا ونحن نريد إدراك ما آلت إليه الأمور اليوم، من ارتدادات ما قبل وطنية، لابد من تشريح الواقع السوري برمته، المهيمَن عليه سلطويًا، من قبل طغاة الدولة الشمولية التي خربت جميع البنيان المجتمعي السوري.
أحمد مظهر سعدو
رئيس القسم السياسي