تعثر الربيع العربي في موجته الأولى عند سورية، بعد أن بدأ بتونس ومصر ومر بليبيا واليمن، وكان السؤال المطروح في حينها بقوة، والمرتقب بتفاؤل كبير، إلى أين سيصل ويمتد، أين سيزهر ويثمر في بلاد العرب الأخرى؟
كان لتطور الأحداث في بلدان الربيع العربي الأولى واتخاذها شكلاً عنفيًا داميًا الأثر البالغ في "استراحته" لعدة سنوات لما أصاب الشعوب من خوف وذعر من مصير مرعب يهددها من حكامها، برغم توفر كل عوامل الثورة والانتفاضة في معظم دول الوطن العربي، بدرجة لا تقل عن تلك التي طالها بين نهاية 2010 وبدايات 2011، في نظم تتشابه من حيث البنية والطبيعة والسياسات المتبعة عامة.
في الموجة الثانية من الربيع العربي تهاوى الرجل المريض في الجزائر بسرعة قصوى ولحقه راقص السودان في مشهد نادر من حيث تنظيم المتظاهرين ووضوح أهدافهم وجذريتها، في حالة حضارية راقية جدًا، ما أعاد طرح السؤال الذي بات مكررًا على كل لسان، لماذا تسقط هذه النظم ويرحل رموزها ويبقى طاغية سورية يرتكب كل الفظائع والجرائم، من الإبادة الجماعية إلى التهجير القسري وحتى استخدام السلاح الكيماوي، دون أن يسقط أو يزاح عن قمة السلطة تجاوبًا مع المطالب الشعبية المطالبة بإسقاطه مع كافة رموز نظام حكمه، وذلك كله بغياب قرار دولي حاسم ينهي حقبة تاريخية طويلة من حكم آل الأسد (الأب والابن).
1- بات معروفًا أن من حمى نظام الأسد ودعمه كانت (إسرائيل) التي شكلت شريكًا خفيًا له طوال السنوات الثماني الماضية لأن في ذلك مصلحة ظاهرة لها مع خادم مجرب وموثوق فيه، بينما لا يتوفر ذلك في حالتي نظام بوتفليقة البعيد جغرافيًا، أو نظام البشير المطلوب للعدالة الدولية، وكلاهما(الجزائري والسوداني) لم يعودا يشكلان أي قيمة بعد أن دمرا مجتمعيهما بالفساد والاستبداد.
2- موقع سورية الجيوسياسي في النظام الدولي وتأثيرها الكبير في محيطها الإقليمي بإمساكها في العديد من الملفات العالمية كوكيل يشكل رحيله فراغًا كبيرًا قد يؤدي إلى تغيرات وتأثيرات على النظام الأمني الإقليمي والعالمي، وهو ما لا يتوفر في حالتي السودان أو الجزائر.
3- طبيعة وبنية المجتمعين والدولتين في الجزائر والسودان بالمقارنة مع سورية لجهة بنية النظام الطائفية والمذهبية، وخطابه الذي استخدمه وخلق حوله التفافًا إلى حد كبير من حاضنته المستفيدة منه والخائفة من العقاب والحساب.
4- بنية الجيش السوري الممسوكة بقوة بعد عمليات تعقيم و"تنقية" من كافة العناصر الوطنية، وعلى أساس تجارب واختبارات شديدة الحساسية والأهمية لجهة الولاء والطاعة، وهو مالا ينطبق على حالة الجيشين الجزائري والسوداني بالدرجة نفسها.
5- ارتباط النظام السوري بالمشروع الايراني الكبير الطامح للنفوذ والسيطرة وتغيير البنية المذهبية لسكان المنطقة والتي دعمت النظام السوري بقوة وصلابة، قبل التدخل الروسي العسكري المباشر وهو الذي حماه وغطاه سياسيًا منذ البداية، في حين لم يتوفر ذلك الحليف للشعب السوري المكلوم والمفجوع بحجم أعدائه.
6- عوامل ذاتية نابعة من عدم الحسم السريع خلال أشهر السلمية، وإحداث انتقال حاسم في السلطة ومن ثم التحول إلى العسكرة والتطيف والأسلمة وما نتج عن ذلك من ممارسات شاذة ودخول جماعات إرهابية متطرفة عابرة للحدود والمشاريع والأهداف.
7- تمركز الحراك الثوري في الجزائر والسودان في العاصمتين والمدن الكبرى الأخرى لكلا الدولتين فيما بقيت دمشق المدينة خارج الحراك العاصف وتأخرت حلب لأكثر من عام حتى التحقت بالثورة، وانضمام النقابات ومعظم تشكيلات المجتمع المدني للحراك الجماهيري في كل من السودان والجزائر، فيما بقي في سورية على مستوى الأفراد وبشكل أفقي وليس عموديًا.
بالرغم من كل ذلك لا يعني أن التاريخ توقف عند حدود دمشق، وتجاوزها، وهو يطوف ويجول مشرقًا ومغربًا، ولن تقف كل تلك العوامل حائلًا عن أن يستجيب القدر لتطلعات الشعب السوري، ولكن ذلك رهن بوحدة السوريين وتنظيم صفوفهم، ووضوح رؤيتهم، وتوفر قيادة وطنية صادقة، ومؤمنة باستقلالية قرارها، ونزاهة أفرادها، وواثقة بقدرة الشعب السوري وحده على تحقيق آماله وطموحاته، دون رهانات خاسرة ومجربة.
عبد الرحيم خليفة
كاتب سوري