هذه الأزمات الكبيرة التي يعيشها الداخل السوري حالياً، وخاصة أزمة الطاقة المستفحلة، تنطوي على دلالات ومؤشرات شديدة الأهمية، تستحق استجلاء أسبابها وأبعادها، وحساب نتائجها المتوقعة.
فهي من ناحية أولى تبدو مفتعلة، أو غير منطقية، خصوصًا وأن حلفاءه الأقربين هم من منتجي ومصدري النفط والغاز الكبار في العالم، فإيران تنتج المادتين ( 3 مليون برميل يوميًا)، وروسيا هي ثانية أكبر المنتجين والمصدرين للسلعتين في العالم، والعراق هي إحدى كبار المنتجين العرب للبترول، وبإمكان الدول الثلاث إنقاذ الأسد من هذه الأزمة البسيطة، وسد حاجته من البترول والغاز بعد أن أنقذتاه مما هو أخطر، والطرق البرية مفتوحة مع العراق وايران، وخطوط الإمداد والتموين بين موانئ روسيا والساحل السوري قصيرة، وتعمل ليل نهار في نقل الأسلحة، والسؤال الطبيعي هنا، ما دامت ايران وروسيا تمدانه بالسلاح والمقاتلين والمال فلماذا لم تمداه بالنفط والغاز؟، وهما أقل كلفة وأهمية، كما أن حاجته منهما ليست كبيرة.
ثم هل يعقل أن تجازف الدولتان وتتركا الأزمة تستفحل إلى الحد الخطير الذي بلغته؟ وهل يخفى على الدولتين أن الأزمة قد تسبب حالة شلل حقيقية في كافة مناحي الحياة الاقتصادية والإنتاجية والأمنية والانسانية، مما قد يؤدي لانهيار النظام حتمًا، ودفع حاضنته الشعبية للتمرد عليه؟
تذهب تقديرات المحللين إلى أن روسيا إما أن تكون خلف هذه الأزمة غير الطبيعية من الأساس، وإما أن تكون غير راغبة في مساعدته على تجاوزها، وشبهة سوء نية روسيا في الحالتين تبدو واضحة، ولعل هدفها هو الضغط على الأسد، لمنعه من السقوط الكامل في براثن إيران التي يزداد افتراق أجندتها السياسية للحل ومستقبل النظام عن الأجندة الروسية.
وتذهب التقديرات إلى أن إيران متورطة بنفس القدر في ترك الأزمة تتفاقم، ولنفس الهدف الذي يحرك روسيا، أي الرغبة في الضغط أكثر على الأسد ليسير خلفها ويقبل شروطها أكثر فأكثر، ولا يقلل من هذا التعليل كون إيران تعاني من عقوبات أميركية وعالمية، ومن أزمات مالية واقتصادية، تحد من قدرتها على الإغداق البترولي على حليفها، لأن هذه المبررات تتجاهل حاجة ايران الاستراتيجية لإبقاء نظام الأسد واقفًا على قدميه، فضلًا عن كونها تنتج فائضًا نفطيًا ضخمًا، بدون قدرة على بيعه لأي طرف، إضافة إلى أن بإمكانها أن تطلب من وكلائها في العراق تقديم كميات من النفط له، والطرق البرية مفتوحة وآمنة.
إن هذه الأزمة تسلط الأضواء الكاشفة مرة أخرى على مدى ضعف وعجز وارتهان سورية، دولة ونظامًا لمن تراءى للأسد أنهم جاؤوا لإنقاذه، فإذا هم في الواقع من يتحكمون بمصيره ومصير الشعب السوري، وتكشف مدى عمائه وغبائه منذ البداية، وسوء رهاناته على روسيا وايران، فهو لم يسلم سورية لهما فقط، ولكنه في الواقع سلم عنقه أيضًا، ولم يعد يملك من أمره شيئًا سوى الرضوخ لهما مرة بعد مرة، والاستجابة لشروط كل منهما بدون نهاية لهذه الشروط.
لقد شاهدنا في الآونة الأخيرة أمثلة كثيرة عن التنافس والاختلاف بين اللاعبين الروسي والايراني حول اتجاهات وخيارات المستقبل والحل السياسي ومصير الأسد، فللروس مروحة حسابات دولية أوسع من حسابات إيران الاقليمية، وهي قد تضحي بالأسد، في صفقة كبيرة مع الأميركيين أو مع العرب للتخلص منه، وقد تتفاهم مع الاسرائيليين لإخراج إيران من سورية، ولذلك يبدو الأسد أشد قربًا من إيران، ويبدو أكثر توجسًا وحذرًا من نوايا بوتين تجاهه، ولذلك يبدو أسير "خيارات جبرية" ضيقة جدًا، خصوصًا وأن الدولتين تتقاسمان السيطرة على كل الأجهزة السيادية، ومفاصل الدولة، وهما من يديرها مباشرة، لا الأسد ولا حكومته ولا حتى عصاباته العسكرية والأمنية.
الأزمة تتفاقم وتهدد ما بقي للأسد من حواضن موالية، وخاصة الميلشيات الممسكة بالأرض والمتحكمة بحركة المواطنين اليومية، لأن هذه العصابات ذات طبيعة لصوصية، وقد تسارع للتخلي عنه فورًا، إذا تعرضت مصالحها وأرباحها للخطر، فعلاقتها بالنظام علاقة مصالح مافيوية، لا علاقة ولاء وانتماء وطني أو سياسي.
الواقعية السياسية تضعنا أمام مشهد حافل بالمفارقات والمفاجآت والتناقضات: نظام يتفسخ ويتهاوى من داخله، بعد أن نجا من بنادق الثوار، نظام لم يسقط بفعل تدخل خارجي معاد له، وإنما بفعل أزماته الجينية والعضوية المستعصية، وبفعل تآمر حليفيه المقربين!
محمد خليفة
كاتب وصحافي سوري