الرقص على أشلاء الكرامة


يسود الخوف من كلّ شيء وعلى أي شيء، يمسي التربص صاحباً، والقلق رفيقاً مقيماً وملازماً، تختلّ الثقة بالذات وبالآخر، لا يقين ولا أمان. قد يأتي الشرّ بهيئات مختلفة من أيٍّ مما يحيط بك. تغدو الأرصفة مكمناً وكذلك الشوارع ودوائر الدولة ومؤسساتها مكامن تنذر بالسوء والأذى وربما بالموت. لا أحد ولا شيء بمنأى عن الشك أساساً ومنطلقاً في علاقات الناس ببعضها وبأشيائها وممتلكاتها وبما تستقبله حواسها.

هكذا هو الحال في ممالك الطغاة. لا شيء لك فيما كان كله لك، فأنت مجرّد نزيل وخادم أعمى لدى عصبة تدّعي امتلاك وطنك، وقد تحوّل إلى مزرعة أنت فيها أيّ شيء سوى أن تكون مواطناً أو شريكاً في وطن، بل أن تكون إنساناً يتمتع بالحقوق الطبيعيّة للإنسان، فإن كنت صالحاً وتقدّمياً وفقاً لمعايير الطاغية في مدى الطأطأة والولاء له، فستكون بمثابة الابن القاصر الفاقد لأهليّته في التفكير والتقرير والتصرف.

لكنّ المعضلة الحقيقية في بنية التفكير، لدى البعض، القائم على القبول بالعبوديّة والاستعداد لتنفيذ أوامر السيّد المطلق في رؤيته وحكمته وحكمه، وفي تحمّل تبعاتها بكلّ ما تقتضيه من رضوخ واستكانة ورضى. فالأمل يكاد ينعدم في إمكانيّة التحوّل لدى من يملكون هذه البنية، وفي مدى قدرتهم على تقبّل الجديد، والانصياع إلى ضرورات التغيير التي يفترضها الانتقال إلى مرحلة جديدة أساسها الحريات والعدالة وكرامة الإنسان.  

ولعلّ تحمل المسؤوليّة أمام الدولة والمجتمع وفقاً لمبادئ القانون وقيمه هي من أخطر وأثقل ما يمكن أن يواجه أولئك المدمنين لآفة الخنوع ممن تشكل وعيهم على قابلية الاستعباد واستعمرت عقولهم فتنة الحاكم الفرد وصفاته المطلقة.

الامتثال المبني على الوعي لمقتضيات العقد الاجتماعي الذي توافق عليه الشعب وتطبيق القوانين، والاحتكام إلى القضاء وإلى الأبنية المؤسسية ولوائحها التنظيمية، هما المدماك الأوّل في البناء الديمقراطي البديل عن العلاقات الشخصية مع المتنفذين، واللجوء إلى الأوكار والدهاليز العنكبوتية التي تعجّ بها أنظمة الطغيان.

بالتأكيد لا يمكن للعبيد وليس بمقدورهم ان يستبدلوا المشيئة المنفردة للزعيم الأوحد والقائد الملهم بسلطة النصّ المؤسس على حرية الاختيار وعلى إرادة الأكثرية، كيف لهم وهم لا يعرفون معنى للحرية أو الإرادة ولم يختبروا قدرة لا يجرؤون على التفكير بامتلاكها.

المدهش أنهم بالرغم من فقدهم للإحساس بالمسؤوليّة ومن خلوّهم من أيّ منظومة قيمية إنسانيّة إلاّ أنهم يمتلكون مخزوناً هائلاً من مبرّرات مغلوطة لعطالتهم الأخلاقية وبلادة مشاعرهم وفقرهم الروحيّ، بل إنهم يرقصون على أشلاء كرامتهم ويهللون لمن يمعن في إذلالهم ويهينهم أكثر، ولا يتورّعون عن المباهاة بمدى تماهيهم برغبة الطاغية وبراعتهم في التكيّف مع أقصى حدود التهديد الوجوديّ.

ما دعاني لكتابة هذه المقالة تجاهل كثير من السوريين لممارسات نظام الإجرام الأسدي بحقّ أهليهم ومدنهم وممتلكاتهم من قتل وتدمير واغتصاب وتعذيب مفضٍ للموت وحصار وإبادة.. إذ لم يكتفي بعضهم بالصمت بل تعدّى بالفعل إلى المشاركة في ارتكاب الجرائم والتهليل للمجازر ولتخريب المدن وتهجير أهلها، ولعلّ محرّضي الأكبر هو ما انتشر مؤخراً من مقاطع للفيديو تصور عدداً من عبيد المجرم وهي تعقد حلقات الدبكة وترقص لفقدان الوقود والمواد الضرورية لمعيشتهم الدونيّة وتهتف باسمه.

يمكن فهم التطبيل والزمر والهتاف وألوان السلوك العصابيّ المختلفة التي تمجّد الحاكم المستبدّ حال النجاح في تأمين احتياجات المواطن البيولوجية أو ربما على إثر إنجاز كبير على مستوى وطن، أمّا أن يكون تعبيراً عن تأييد لمسلسل جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية التي ارتكبها نظام إجرام خائن ضدّ شعبهم وبلدهم، ومكافأة له على بيع الوطن، وعلى فشله في كافة الأصعدة، وعجزه عن تأمين أبسط مقوّمات حياتهم بما فيها الوقود ورغيف الخبز، فهذا ما لا يمكن أن يستوعبه عاقل، إنّه من جملة الظواهر غير المفهومة تماماً، التي تستدعي استنفار المفكرين وعلماء الاجتماع والنفس لتفسيرها ومعرفة دوافعها. إنّ هذا المشهد الهيستيري لتمجيد الطاغية، في ظل البؤس والعوز والخوف، أشبه برقصة الموت، وقد يذكر بطقوس الانتحار الجماعيّ لدى بعض الحيوانات كالأرانب والكلاب.

لا يمكن للإنسان السويّ أن يكتفي بإدانة هذا السلوك المخزي، وسيتجاوز حالة الغضب والقرف إلى التساؤل الممضّ عن حقيقة انتماء تلك الكائنات للبشر، وعن حقيقة امتلاكها للأدمغة والحواس ناهيك عن المبادئ والقيم، فهل نحن أمام فصلٍ أخير لاندحار العقل وهزيمة الحضارة، في مسرح اللامعقول ينذر بنهاية الحقبة الإنسانية، أم أنّ الدمار الشامل للمنجز الإنسانيّ، وهذه الانهيارات المتعاقبة لخطوط الدفاع عن بقاء الجنس البشريّ، وما يشهده العالم من ثورات شعبيّة يبشّرنا بأننا أمام قيامة كونيّة، وولادة إنسان جديد، وحياة حقيقية عنوانها الحرية والكرامة والعدالة؟؟.

 

علي محمّد شريف

رئيس القسم الثقافي

 
 
Whatsapp