بينما انشغل العالم بالحريق الهائل الذي دمر أيقونة باريس الشهيرة "كاتدرائية نوتردام" التي يعود بناؤها إلى 1260 م أي قبل 850 عام، مساء الاثنين 15 أبريل / نيسان، استوقفني أيضاً أيقونة دير الزور الشهير "الجسر المعلق" هذا المعلم التاريخي الذي يجتمع عليه أهالي دير الزور، والذي يعود بناؤه إلى العام 1928 م.
لا يوجد في الحاضر ولا في الماضي من يحظى بهذه الشعبية لينال ثقة وحب الديريين أكثر من الجسر المعلق، هذه الأيقونة التي بُنيت من الحديد والاسمنت والحجر، “الجسر المعلق” الرمز الكبير والعشق اللامحدود، الذي عليه تعلقت ذكريات أهالي الدير، هو من أبكاهم حرقةً عند تهدمه عام 2013 على يد طاغية الشام عن طريق قذائف فوهات دبابات T72 ، حزن العالم وتباكيه على احتراق رمز تاريخي مثل "كاتدرائية نوتردام" ولم يعنِهم بالمطلق تهديم "الجسر المعلق" والصور التي تُبيّن حالته المهدمة الحالية، بعد أنْ كان معلماً شامخاً ومزاراً يومياً لأهالي دير الزور وضيوف المدينة من عرب ومن عجم.
الجدير بالحدث المأساوي على الشاشات العربية، أنْ أُسلِّط الضوء (وأنا أحد أبناء دير الزور) على مكانة "الجسر المعلق" عند الديريين وما تعرض له خلال الثورة السورية على غرار مكانة "نوتردام" عند الباريسيين وما تعرضت له أثناء الثورة الفرنسية.
كان "الجسر المعلق" مركزاً لتحديات أهالي دير الزور من الصغار والشباب والرجال أيضاً، كان تحدي ذكوري بامتياز طبقاً للعادات والتقاليد في المدينة، وهو بمثابة عرض "سيرك" والفرجة أي المشاهدة بدون أي مبلغ مادي، يتمثل بالقفز من أعلى الجسر إلى نهر الفرات، بأسماء عديدة مثل "السبُّول الفرنسي" و"اللگحة" أي الرمية و"القدريَّة" ولكل منها أسلوبها في القفز، وفي التعريف لما تعنيه هذه الكلمات التي تنتمي إلى اللهجة الديرية، "فالسبُّول الفرنسي" وهو أن يرمي الشخص نفسه إلى الماء وتكون يديه أوَّل ما تدخل الماء ويسمى بذلك نسبة إلى فرنسا حسب اعتقاد الديريين التي هي من قامت بتشييد وبناء الجسر عام 1928، وهناك قفزة أخرى تدعى "اللگحة" وهي أن يرمي الشخص نفسه واقفاً أي أن تصل الأرجل الماء أولاً ولها تسمية ثانية هي "السبُّول العربي"، بينما "القدرية" وهي على شكل "قرفصاء" يقوم الديري بضم ركبتيه إلى صدره وهو في الهواء عندما يقفز إلى الماء، ولكن يبقى النوع الأول "السبُّول الفرنسي"هو الأصعب تنفيذاً إذ يحتاج قدراً كبيراً من الشجاعة وقوة القلب لذلك يُعتبر رمزاً للرجولة، وخصوصاً لدى أهالي حي "الحويقة" الشهير، وهو المنطقة القريبة جغرافياً من نهر الفرات والجسر المعلق بالتحديد.
مابين الأنواع في القفز التي ذُكرت، هناك تحدي يجمعهم فيما بعض، وهو معدل ارتفاع القفزة طبقاً لوجود مناطق مرتفعة بشكل متصاعد، والمشي على الأكبال الحديدية التي تربط أعمدة الجسر المعلق ببعضها، هو الطريقة المتّبعة للوصول إلى أعلى نقطة مرتفعة للقفز، وهنا بالتحديد تبدأ الرحلة المحفوفة بالمخاطر، في الوقت نفسه يُعتبر وقت ممتع للمتفرجين من الأسفل يقضونه وهم مركّزين على أقدام السباح الديري ذو القلب الحديدي، وهي تمشي على الكبل الحديدي صعوداً، هي مخاطرة كبيرة شبيهة بتلك التي نراها بعروض السيرك العالمية، لكن مع اختلاف كبير، حيث يكون فيها الديري معرضاً للخطر والموت اذا تهاوت أقدامه، ولا يوجد شيء يحميه على عكس الأدوات الآمنة الموضوعة في السيرك.
هذا الشخص الذي يقوم بالعرض يمشي كالطاووس، يشعر بأنه ملكاً فوق جمهوره الذي يحييه ويصفق له ويشد من أزره، يتلاعب بأعصابهم مع بعض الحركات التمثيلية، مثل أخذ استراحة ليجلس على الكبل، والتّمهُّل كثيراً بخطواته، واستغلال أكبر قدر ممكن من ترجي جمهوره لينفذ قفزته الخطيرة، هو لا يتكلم حتى يصل القمة التي يصل ارتفاعها حوالي 35 متراً، ومن هناك يخاطب ويصرخ بأعلى صوت له مهدياً فعلته لأحد من معارفه أو لحارته، ويقول باللهجة "الديرية الصارخة" هذا سبُّول لأبو فلان أو لعيون "الحويقة".
هذا التحدي الديري القديم المحفور في ذاكرة الديريين، ومنهم من خصص أغلب زياراته إلى الجسر المعلق لرؤية استعراض القفز إلى نهر الفرات، ومنهم من تمنى أن يكون هو من يقفز لكن خوفه منعه من تجربة ذلك، لكنه دائماً ما يتحدث لأهله وأصحابه ما رآه من حدث مدهش بالنسبة له، ويعتبره هو الأكثر روعة، وهو الآن يتمنى فقط عودة تلك المشاهد إلى الواقع، وعودة "الجسر المعلق" ليقف من جديد ويستقبل زوّاره بعد تهدمه منذ أكثر من خمس سنوات.
المثنى سفان
كاتب وصحفي سوري