السوريون، والرصاص الخاذل


لا تقل ذلّت الرجولةُ يا خــــــــــــــــالدُ، واستسلمتْ إلى الإذعانِ

إنّ شعباً قد قدْتَه لم يكن أكثــــــــــــــــــرَ منّا بذلاً ولا أشدَّ تفاني

إنما جرّت القطيعَ إلى الهلْك رعاةٌ ذبيــــــــــــــــــــحةُ الوجدانِ

تكاد تختزل هذه الأبيات للشاعر الكبير عمر أبو ريشة، ما يختلج من شعور مزدوج لدى معظم الثوار السوريين، ازدواجيه الشعور تتأتّى من إحساسهم بغبطةٍ عظيمة حيال ما ينجزه أشقاؤهم في الجزائر والسودان، بمظاهراتهم السلمية الحاشدة، التي أجبرت المؤسستين العسكريتين في كلا البلدين، على الرضوخ لمطالب المتظاهرين، بل إن عملية الرضوخ هذه إن هي إلّا سمةٌ حضارية وإنسانية، فضلاً عن كونها سمة وطنية بالدرجة الأولى، إذ إنها تؤكد بجلاء واضح، التزام المؤسسات العسكرية بوظائفها الموكلة إليها، التي تتجسّد في حماية البلاد، وليس حماية السلطة، والحفاظ على أمن المواطنين، وليس الاعتداء على حيواتهم. إلّا أن هذه الغبطة الداخلية للسوريين تباغتها – في الوقت ذاته – غصّة حارقة، مبعثها سلوك جيش النظام الأسدي، إبان انطلاقة ثورة آذار 2011، حين لم يتوان هذا الجيش عن توجيه رصاص بنادقه وقناصاته إلى رؤوس المتظاهرين السلميين وصدورهم.

ما يزيد هذه المفارقة إيلاماً هو شعور السوريين بأن ثورتهم لم تكن أقلّ عدالةً أو مشروعية من ثورات أشقائهم، كما أن سخاءهم الثوري لم يكن دون سخاء مَنْ سواهم، بل يمكن الجزم بأن ما قدّمه السوريون من تضحيات يكاد يفوق تضحيات ثورات الربيع العربي مجتمعةً. وعلى الرغم من ذلك، فإن شعوراً بالمرارة يلازمهم، كملازمة إدراكهم لكنْهِ هذا الكيان العسكري الذي يُطلق عليه ( الجيش العربي السوري)، علماً أنه – ومنذ اغتصاب حافظ الأسد للسلطة 1970 – لم يكن جيشاً سورياً ولا عربياً، بل كان أسدياً بامتياز، ذلك أن الوقائع التاريخية لمسيرة هذا الجيش – العصابة – تؤكد ذلك، ليس بسبب جرائمه التي ارتكبها بحق السوريين في حماة وتدمر وحلب وجسر الشغور في عهد الأب، وكذلك ليس بسبب مجازره التي تجاوزت جميع الروادع الإنسانية في عهد الابن، من خلال القتل الجماعي بالبراميل المتفجرة والسلاح الكيمياوي، بل بسبب عدوانيته وإجرامه الذي لم يسلم منه الأشقاء الفلسطينيون في تل الزعتر 1976 ، وفي مخيمات نهر البارد والبداوي عام 1983 ، وفي مخيم اليرموك بعد انطلاقة الثورة السورية، فضلاً عما ارتكبه بحق الأشقاء اللبنانيين من إجرام.

مأساة السوريين (المركّبة) تكمن في خذلانهم المزدوج، فهم محكومون بالموت اليومي الذي يروعهم به جيشٌ يغتصب تمثيلهم، ويقتات دماءهم، ولكنه يستهدف أرواحهم، وهو ماضٍ في إبادتهم دون أي رادع، ولكن من جهة أخرى، يواجهون خذلاناً لا يقل إيلاماً ووجعاً من الخذلان الأول، ويتجسّد في خيبتهم التي تصل حدّ الفجيعة، مما تناثر في بلادهم من كيانات عسكرية ادّعت نصرةَ ثورتهم، فقسمٌ منها اتشح بالسواد، وأعلن حيازة أوامر الله على الأرض، فمضى يقطع الرؤوس والأوصال، حاملاً في كينونته أبشع الطباع، وأشدّ الممارسات خسةً ونذالةً، وقسم آخر تلطّى خلف شعارات ثورية، سرعان ما انزاحت لتكشف عن ركام هائل من الزعْرنة لا أكثر، أمّا ما تبقى من كتل عسكرية بعد مرور ثماني سنوات من عمر الثورة، فإما قد خضع لعملية الاحتواء الروسي، وتم ترويضه في أستانا، وإمّا انخرط للعمل ضمن أجندات خارجية( دولية وإقليمية)، وهي في أغلب حالاتها لا تنبثق ولا تجسّد خيارات وطنية. ولكن هذا الانطباع – بكل تأكيد – لا يشمل الآلاف من الشرفاء والمخلصين الذين قضى قسمٌ منهم بصمت، ودون ضجيج، ولم يكونوا يحملون في دواخلهم سوى إقدامهم وبسالتهم للدفاع عن أهلهم وثورتهم، نحسبهم عند الله من الصدّيقين الأوفياء، وقسم منهم انكفأ حين رأى أن بوصلة الكفاح الوطني قد اتجهت إلى غير مسارها الصحيح، فمضى يداوي جراحه بحسرة وقهر.

غيرة الثوار السوريين من أشقائهم في الأقطار الأخرى أمرٌ جدّ مشروع، طالما أنه ينبثق من معينه الإنساني النبيل، ويتطلع إلى بلوغ النبالة التي لا تفارق في ماهيتها معاني الحرية والكرامة، هذه الغيرة التي تتأسس على شعورهم بمفارقة موجعة، كرّسها قدر ثورة السوريين في أن تتحوّل إلى حرب كونية يواجهون من خلالها عهرَ المجتمع الدولي الذي تتحالف مصالحه مع الاستبداد من جهة، وكذلك يواجهون عهر بني جلدتهم، عسكريين وسياسيين، ممّن اغتصبوا تمثيلهم، وتسلّقوا على تضحياتهم، وما زالوا يعتاشون على معاناتهم قائلين بلا وجل: ( إنا على صدوركم باقون كالجدار)، وعندئذٍ لا يرى السوريون بدّاً من القول مرةً أخرى مع أبي ريشة:

لا يُلامُ الذئبُ في عدوانه         إن يكُ الراعي عدوَّ الغنم

 

 حسن النيفي

 شاعر وكاتب سوري

 

 
Whatsapp