لن يفلت المجرمون من العقاب


ما أجبن الطغاة والمستبدين وما أشدّ غباءهم، فلأنهم مفلسون عاجزون عن إيجاد الحلول للمشاكل العميقة التي أوجدوها أو تسببوا بوجودها، وعن مواجهة الآخر ومقارعة الرايّ بالرأي والفكرة بالفكرة يلجؤون إلى قتل الآخر، وهم في سعيهم لإفناء الروح وحبس الفكر يعتقلون الجسد، غافلين عن أنّ الروح والفكر لا يعرفان القيود والسدود والحدود.

من بين جميع جرائم الحرب والجرائم ضدّ الإنسانية، التي لم يتورّع نظام الطغيان الأسدي عن ارتكابها ضدّ السوريين، تبرز جرائم الاعتقال التعسفي والتغييب والإخفاء القسري، الأداة الأهمّ والأكثر استخداماً لتحييد خصومه من السياسيين والمفكرين والمثقفين، ربما لأنّها تناسب طبيعته المافيوية وبنيته الأقرب إلى عصابة الأشرار.

لقد سلك هذا النظام منذ نشأته طريق الجريمة للوصول إلى حكم البلاد والاستئثار بها وتوريثها، فمنذ انقلابه الأسود وسيطرته على السلطة في سورية، لجأ حافظ الوحش إلى استخدام الجريمة المنظمة والإرهاب كأدوات رئيسة لقمع الشعب وتثبيت دعائم سلطته، وكان الاعتقال السلاح الأمضى لنظامه الطغياني في مواجهة المناوئين لحكمه، والأداة المثلى لعقاب المجتمع والثأر منه، وإرهاب أفراده ومنظماته ومكوناته المختلفة، إنّ الاعتقال والخطف والتغييب والإخفاء القسري من الجرائم الأكثر إرعاباً والأشدّ تأثيراً على المجتمع بما يرافقها من تنكيل بالمعتقلين واغتصاب وإعدامات ميدانية، وتعذيب مفضٍ للموت.

إنّ الأجهزة الأمنية المحميّة بموجب قوانين ومراسيم، والمؤسسات الصورية الملحقة والمنتهية الصلاحية، وعلى رأسها مؤسسة القضاء، وصمت الهيئات الأممية والمنظمات الحقوقية والقانونية الدولية، دفع بهذا النظام لكي يكون الاعتقال خياره الأمثل لوأد الثورة السورية والتخلص من الشعب الرافض لحكمه، بل قدّم له الغطاء والمبرّر ليمعن في جرائم الإبادة والتدمير والتهجير، وفي زجّ مئات الآلاف في مسالخه البشرية وترويعهم والبطش بهم.  

تشكل جرائم الاعتقال التعسفي والتغييب والإخفاء القسري، وما يرافقها من ارتكابات وأساليب لا إنسانية، سياسة ممنهجة يمارسها على نطاق واسع نظام أسد وشركاؤه الروس والإيرانيون والمليشيات التي تتبع لهم في معظمها، وهي تأتي في سياق مخطط مدروس يهدف للقضاء على الثورة السورية وإبادة جميع السوريين المطالبين بالحرية والعدالة والكرامة الإنسانية.

أمام هذه الحقائق وبمواجهة آلة متوحشة لنظام مافيوي لا يعترف بأبسط حقوق الإنسان، ولا يتقن سوى لغة الانتهاكات وارتكاب جرائم الحرب والجرائم ضدّ الإنسانية تبدو مآلات قضية المعتقلين مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بمصير هذا النظام ومآلاته، لا بدّ إذاً لطيّ ملفّ المعتقلين ومحاكمة المسؤولين ومساءلتهم عن الكارثة المستمرة من انتقال سياسي يستبدل هذا النظام وركائزه المؤسسة على الطغيان، بنظام وطني ديمقراطي يؤسس لدولة العدل والحريات والحقوق.    

قضية المعتقلين والمخفيين قسراً من أخطر وأهمّ الملفّات الإنسانية، وهي قضيّة ما فوق تفاوضية، وينبغي كشرطٍ لأية مفاوضات أو تسوية سياسية أن يسبقها العديد من الخطوات والإجراءات الفورية كالتوقف عن نهج الاعتقال التعسفي والإخفاء القسري، والإفصاح عن مصير المعتقلين والمخفيين قسراً، وإطلاق سراح من بقي منهم، والكشف عن أماكن الاعتقال العلنية والسرية، والسماح للمنظمات الدولية والإنسانية والمراقبين الدوليين بدخولها وللأهالي بزيارة ذويهم، ولا يمكن أن يتحقق ذلك إلاّ بتطبيق قواعد القانون الإنساني الدولي والقانون الدولي لحقوق الإنسان والمعاهدات والاتفاقية الدولية ذات الصلة.

إنّ تجاهل الأطراف الدولية والإقليمية المضطلعة بالمأساة السورية والمستثمرة فيها، حتى الآن، وعدم قيامها بمسؤولياتها الأخلاقية والإنسانية يجعلها شريكاً في الجرائم ويتيح لنظام أسد وشركائه الإمعان في تدمير سوريا وقتل شعبها، لكنّ السؤال الأهمّ عمّا فعلته مؤسسات المعارضة السياسية والسوريون عموماً، وعمّا يمكن فعله في المحافل الأممية وأمام الحكومات والمنظمات وفي المحاكم الدولية ومؤسسات الإعلام العالمية، وفي ساحات وشوارع العواصم والمدن الكبرى، لشرح قضيتهم العادلة ولتحريك المجتمع الدولي لممارسة الضغوط ووقف الكارثة السورية ومحاسبة المجرمين، وهل سيبقون على هامش قضاياهم وهم الرقم الأصعب في معادلة الحلّ العادل؟.

مع ذلك فإنّ العدالة لا يمكن أن تبقى غائبة عن سماء سوريا وعن السوريين ولا بدّ من يوم قريب، تتحقق للشعب السوري مطالبه المحقة والمشروعة في العدالة والحرية والكرامة الإنسانية، فالمصالح الدولية متحركة ومتبدّلة، أمّا الاعتقال التعسفي والإخفاء القسري كما هي جميع الجرائم ضدّ الإنسانية وجرائم الحرب ثابتة ولا تسقط بالتقادم، ولا يمكن بحالٍ من الأحوال أن يفلت المجرمون من العقاب.

 

علي محمّد شريف

رئيس القسم الثقافي

 
 
Whatsapp