نستعرض في هذه المقالة عدداً من الأفكار التي وردت في كتاب (العقل السليم) للمفكر التركي (تورغاي آلدمير) حيث يبدع الكاتب في تأملاته الفكرية والروحية التي يتناول فيها فكرة المدينة ببعدها الثقافي من خلال العلاقة المتبادلة بين البشر والحجر، بين الانسان والبناء.
يقول الكاتب: ينبغي النظر إلى المدينة باعتبارها قضية وجود عميقة، وليس فقط باعتبارها تلك الأماكن التي يعيش فيها الناس، حيث تمثل المدن والانتماء إليها والارتباط بتاريخها حالة التكامل بالنسبة للإنسان، فهو يبني المدن والحضارات، والمدن بالمقابل هي التي تربّي الإنسان وتحميه.
المدينة هي مجال حياة ونمط عيش، والدليل أننا عندما نلقي نظرة على المدن العريقة التي يزخر بها التاريخ يمكننا أن نرى مختلف الثقافات والبنى الاجتماعية المتنوعة كما تخبرنا بذلك المدن التي ما زالت صامدة منذ العصور السحيقة، ومحافظة على طابعها رغم تقلب الزمن مثل (كوبكلي تبه وزوغما) ومثل دولوك (غازي عنتاب) وحلب ودمشق، وكذلك المدن التي صنعت حضارات عريقة مثل المدينة واسطنبول وبغداد.
المدينة هي القالب الذي يشكّل شخصيات الناس، ويرسم العلاقات والعادات، وتنطبع ذكريات البشر في المدينة التي يعيشون في أزقتها وشوارعها وأرصفتها، حيثما التفتت عيوننا من زوايا شوارع المدينة نتذكر كلمات كنا قد قلناها، أو صديقاً يجب أن نراه.
يقول الله تعالى: لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ (1) وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ (2).
وتساءل المفسرون عن أي بلد أقسم بها الله تعالى؟ وهل هي مكة أو المدينة أو القدس؟، يقول الكاتب:
) عندما نقرأ القرآن الكريم نرى أنه يخاطبنا وكأنه نزل الآن، وكأن القرآن الكريم يريد أن يشعرنا بأن المدينة التي يقسم بها الله تعالى، هي المدينة التي نعيش فيها، نحن عندما نزور مكة المكرمة للحج أو العمرة ندرك أنها عاصمتنا الدينية، لكننا ندرك كذلك أن حياتنا تجري بالمدن التي ننتمي إليها، ونرغب بتغييرها وإعمارها، وهي المدينة التي أقسم الله بها، لأن بلدي هي التي أسميها وطني).
يستشهد الكاتب بقول المفكر (طورغوت جان سيور): (المدينة هي الوسط الذي يتم فيه الانسان وظيفته، ويعطي فيه مكاناً سامياً لوجوده في هذا العالم باعتبارها البيئة التي تتطور فيها الأخلاق والفنون والفلسفة والأفكار الدينية.).
إن المدينة كائن حيّ يجدد ذاته مع الحفاظ على أصالته، يقول الكاتب أحمد حمدي طان بينار (لم يكن أجدادنا يبنون المدن، بل كانوا يتعبدون، وكان لهم ايمان وروح يسعون بكل اصرار لنقلهما الى المادة، فكانت الحياة تنبعث في الحجر من بين أيديهم: فينقلب الى قطعة من الروح، فالجدران والقباب والأقواس والمحاريب تترنم أرواحها وهي تراقب السهول من الأعلى كنسر متعطش للتحليق في كبد السماء (.
وينتقل الكاتب طان بينار للحديث عن اسطنبول المدينة الساحرة المركبة بشكل إعجازي هو شكل الحياة الخاص بالمدينة، وكسوتها الدينية التي تغمر كل شيء تلامسه بصفة الرحمانية، كان أهلها يفتخرون بها، ويتغزلون بجمالها، ويزينونها كل يوم بمنشأة جديدة تؤبد بهاءها، وكلما ازدادت المدينة جمالاً رأى الناس أنفسهم في غاية الأصالة والجمال.
عند مناقشتنا للمسألة الحضارية لإنشاء المدن نستنتج أن مدننا هي انعكاس لحضارتنا، لكن كيف نقارن الحضارة التي ورثناها بالزمن الحاليّ؟ ربما نكون قد سقطنا اليوم في الامتحان، بعد أن مر زمن طويل على بنائنا مدناً متحضرةً كانت مثلاً تقتدي به الإنسانية ذلك بسبب النظرة العدائية لتاريخنا، وبسبب تأثر أجيالنا بالحداثة، لقد أصبحنا نبني المساكن العشوائية فوق المواقع الأثرية لأجدادنا العظماء، هدمنا كثيراً من الأبنية، أحرقنا بالمواقد أبواباً أثرية مزينة بالصدف، قلعنا أشجاراً عملاقةً بحجة تنظيم الطرق، نثرنا المساكن العشوائية والمنازل الفاخرة على المساحات الخضراء، وبدأ السطو على الأراضي والممتلكات الوقفية تنفيذاً لسياسة (دعه يعمل، دعه يمرّ) فتسابقت ناطحات السحاب تشق طريقها نحو السماء، وبدأ عموم البشر يفتقدون الهواء والماء والتربة والمساحات الخضراء، فما الذي ينبغي علينا أن نفعله؟
علينا أن نغير هذا السلوك الماديّ وأن نهتم بروح المدينة ونزرع فيه وحولها الغابات والحدائق، علينا أن نواصل معركتنا كفاعل مدني في المدن المستنيرة حتى وإن فارقت أجسادنا هذا العالم فعلينا أن نترك وراءنا آثاراً تعطي الحياة للبشرية وتترك دفاتر أعمالنا مفتوحةً، علينا أن نترك للأجيال القادمة مدناً تحكي أيقونة العدالة والرحمة.
لقد أفقدتنا النظرة المادية للمدن كل الأشياء الجميلة، وأضحينا سجناء أماكن ليس لها روح، ولا يعيش فيها المرء الحب والمشاعر الحميمية فقد انسحبت من حياتنا تماماً ثقافة الجيران، والحارة، ومفاهيم الجد والجدة، والعم والعمة والخال والخالة، وهم أحجار الأساس الأهم في بناء العائلة التي تعتبر مهد الوجود البشري المتزامن مع تاريخ الإنسان، لقد سجنّا أنفسنا في بيوت تتألف من غرفتين، تاركين أرواحنا خارجها ومنقطعين عن حقوق الضيف والجار.
لا شك أن تركيا اليوم هي موقع إنشاءات يعمل دون كلل، ولكن هل تم ربط هذه المشاريع العظمى بفلسفة حضارية بعيدة عن مفهوم الربح المرتبط بالهدم والظلم، لقد انتصرت الأضواء الصناعية على الظلمة الحالكة فلم نعد نستمتع برؤية نجوم السماء، وهزمت ضوضاء السيارات سكون الليل، وصمت الطبيعة وهدوءها فغابت عن أسماعنا أصداء حفيف الشجر وصوت العصافير، ولم يعد البيت مكاناً للهدوء بعدما كان مركزاً للسعادة والأمان، فهل ننتظر يوماً لا نجد تراباً ندوس عليه ولا مساحةً خضراء تتنفس منها المدينة؟
أخيراً ماذا يترتب علينا أن نفعله معاً من أجل المدينة والتمدن:
ان شعورنا بالمسؤولية تجاه الله والمجتمع وأجيال المستقبل، يرتب علينا أن نبني مدننا ونحن نستشعر نفس المسؤولية والأمانة التي حملها أجدادنا عندما شيّدوا المدن النموذجية من أجل الإنسانية جمعاء.
علينا أن نستهدف العنصر البشري الذي يعيش في كل المدن وألا تكون عملية الإحياء محدودة بمراكز المدن ذات القيمة التاريخية.
ويختتم الكاتب هذا الفصل بالقول:
"على كل طالب وافد إلى مدننا أن يعرف تاريخها وتراثها وأن يعرف الأزقة الخلفية للمدينة التي يدرس فيها، ويعرف أسواقها وبنيتها وأهلها ونظامها، على المدرسين ألا يشرحوا دروسهم في صفوف جامدة من الحجارة والجدران، عليهم أن يكشفوا ويشرحوا لطلابهم كافة الأوعية الدموية الدقيقة للمدينة: دِفؤها ونشاطها وحركتها واقتصادها وثقافتها وتقاليدها ودينها، إن للمدن هوية وشخصية تماماً مثل البشر، لكن ما عشناه منذ زمنٍ طويلٍ من حالة انجراف على مستوى الهوية والشخصية في كثير من مناحي الحياة: يظهر جلياً على المدن التي نبنيها، وها قد حان الوقت حاليّاً لإظهار المقاربات التي تستند الى قيمنا العريقة في التربية والثقافة والفنون والمعمار وغيرها من المجالات، يقول الأستاذ (طورغوت) :إن التوحيد الحقيقي هو الجهد الرامي إلى صبغ مدننا والحياة التي نعيشها فيها بما نؤمن به من عقيدة.