بلوغ رمضان


لقد تفضل الله تعالى علينا اليوم بأن بلغنا شهر رمضان بعد انقطاع 11 شهرا، وقد تجلى لطف الله وإحسانه ورحمته بأن جمعنا بشهر القرآن رمضان من جديد. أجل، أننا نعيش لقاءا جديدا مع رمضان. والحقيقة أننا نلتقي ونعود إلى أصلنا ورببنا وأنفسنا. وحينما نلتقي بأنفسنا ونعود إليها فنحن في الحقيقة نعود إلى الله أيضا. وحينما نعود إلى الله فإننا حقيقة نعود إلى أنفسنا وونعرفها ونجدها ونتعرف عليها.

أولاً، نحن نجدد اللقاء بأيام عشناها قبل عام ونعيشها بشكل دوري، فرمضان يأتي كل عام بنفس الدرجة من المجد والجمال، وبذات الإيقاعات والمناسك والأنساق، ويضفي مزيدا من الإنسانية على الحياة. يأتي فيفرض نظامه الخاص دون أي تحكم من أي فرد أو جماعة أو دولة.

البعض يحاول القول أن هناك حالة خلافية بطرح التساؤلات التالية: هل نبدأ رمضان بناء على رؤية الهلال أم بناء على الحسابات الفلكية؟ هل نفطر مع الفجر أم حسب التقويم المنشور؟ هؤلاء الذين يحاولون الترويج لذلك على أنه خلاف لا يأتون بأي دليل على كلامهم ولا يؤثرون بالمجتمع إلا كما تؤثر ورقة الشجرة حين تهتز، فهم لا يقنعون أحد بوجهة نظرهم.

 

تأثير الإيزاب الذي يمكن أن ينتج عن أولئك الذين يحاولون تأكيد أنفسهم كموضوع صراع هو تأثير اهتزاز الأوراق في الغابة. فادعاءاتهم وتصريحاتهم غير مقبولة.

ينتقل بنا الوقت من رمضان إلى رمضان الآخر لوحده ودون تدخل أحد، وبذلك تتضح بشكل لا لبس فيه حقيقة أن الوقت ليس ملكا للإنسان وليس بيده التحكم به.

لكن بعد رمضان نعود لممارسة وتكرار كافة أشكال السلوك التي كنا نمارسها قبل رمضان، ونعود للعادات التي كنا فيها في غفلة وسهو، أي نعود لصخب الحياة اليومية.

ها نحن نستعيد الوعي الذي رسخه هذا التقليد وجاء به، وذلك من خلال إنفاقنا، وزكاتنا وصدقة الفطر التي نخرجها، والإفطار والسحور والإمساك والصوم والتلاوة، هكذا نستعيد وعي تقاليد رمضان.

رمضان هو ذكرى وتذكُر ، لكنه ليس تذكُرًا يعود إلى الخلف والماضي أو ذكرى تبقينا في الماضي. إنها تذكر يساعدنا على تأسيس وجودنا في يومنا الحاضر وفي مستقبلنا، وهو تكر يساعدنا على إعادة بناء ذواتنا.

إن لم يكن كذلك فإن البديل أو الطريقة الأخرى هي أن يأخذنا الحنين إلى الماضي ويخنقنا هناك. رمضان لا يأتي كي يعيدنا الى الماضي ويخلق حنينًا للعصر الذهبي داخلنا، ولا يأتي أيضا كي يخلق مزاج حزن وكآبة داخل مزاج الحنين الذي يتملكنا. على العكس من ذلك، هناك مسؤولية يلقيها هذا الشهر على عاتقنا من خلال التذكر والذكرى التي ييوم بها، والمسؤولية التي يأتي بها رمضان هي أن نعيد بناء مستقبلنا.

إنه لا يكتفي بتذكيرنا بل إنه يعلمنا أن نتحمل مسؤولياتنا حيال الآخرين، يذكرنا ويعلمنا بأن لا نكتفي بالتذكر فقط بل بتحمل المسؤولية أيضا. الآخر ليس عدونا، بل هو المكان الذي تبدأ فيه مسؤوليتنا، وهو المكان الذي يوجد فيه الآخرون المختلفون عنا بكل فروقهم واختلافاتهم عنا. فللآخر الحق في أن يكون مختلف عنا ومميز بشيء ما.

إن رمضان عبارة عن شهر يمنح فرصة الإنسان الالتقاء مع نفسه والانقطاع عن المشاغل الأخرى، ويجعله يسائل نفسه ويستجوبها ويتعرف عليها ويسعى لإصلاحها. لكن رمضان من الناحية الأخرى هو عملية مستمرة لتعزيز الشعور بالآخرين والإحساس بحقوقهم، ويدفعنا الشهر للإحساس بمسؤولياتنا تجاه الآخرين أيضا. فأكبر عدو للإنسان هو النفس أي نفس الانسان وذاته عدوة له. فهو يفعل لنفسه ما لا يفعله الآخرون.

عندما يقابل الانسان الآخرين فهو في حالة امتحان، وإن ما يجعل قدم الانسان تزل ويخفق في ذلك الامتحان هو النفس. إذ أن النفس هي التي تحث الإنسان أحيانا على التكبر والكبر أو التفاخر أو العنصرية، وأحيانًا الشعور بالتفوق أو الشعور بالدونية الدونية، وأحيانًا بالرغبة في السلطة وأحيانا بأن يتحول إلى عبد لعبد آخر.

الصوم هو تمرين رائع يساعد على السيطرة والتحكم بها والضغط عليها وحمايتها من التمادي أو مكافحة نزواتها.

هناك الكثير من الأشياء التي تجبر هذا الانغماس بها أو ممارستها طوال العام، هذه النفس تنسي الإنسان الكثير من الأشياء التي يعرفها جيدا، وحتى لو لم تنسه إياها تماما فإنها تضعفها وتضعف الإنسان وتقيده. بل إنها توقع الإنسان في غفلة يصعب تصديقها، وهذه الغفلة التي تتسبب بها النفس مناقضة لتعاليم رمضان.

الأشياء التي نعيشها ونراها تدفعنا للقول: ألم يعلمكم رمضان هذا المعنى أيضا؟؟ فحينما ننحرف عن تعاليم رمضان وننسى دروسه فإن ذلك يخلق فجوة بيننا ويجعلنا نبتعد عن بعضنا البعض، ويجعلنا نؤذي بعضنا بعضا أكثر وأكثر ويؤلم بعضنا الآخر. كلما ابتعدنا عن رمضان تصبح الحياة صعبة لدرجة لا تطاق.

لقد نظرت إلى الظالمين منذ مئات السنين ، وفتحت المدينة المنورة للمهاجرين ، وقد تم القبض على أطفال الأمة المجندين في حالة من الجهل الذي يثير سبب العديد من المشاكل التي واجهوها اليوم مع تحريض شخص من حولهم. إما أنه بدأ يساعده أو اعتقد أنه لا يجب مساعدته. لماذا يجب أن نساعد الناس الذين سيطعمهم الله؟ لماذا نطعم الآخرين عندما يكون الناس جائعين؟ يسأل جاهلاً عن أسئلته.

حينما تنظرون، ترون أبناء قوم نصروا المظلومين طوال قرون طويلة وفتحوا المدينة للمهاجرين يمارسون الجهالة والعصبية بصورة غريبة، إذ إنهم المظلومين والمهاجرين وأصحاب القلوب المكسورة مسؤوليات الكثير من المشاكل التي يعيشونها اليوم، وذلك في إطار استفزاز بعضهم البعض.

إما أنه بدأ يمن بالمساعدة التي يقدمها ويستكثرها على الآخرين وإما أنها لم يصل بعد لفكرة ضرورة تقديم المساعدة للمحتاجين والمظلومين. وذلك بطرح الأسئلة الجاهلة التالية: "لماذا يجب علينا مساعدة أناس لو أراد الله لأشبعهم؟ لماذا تقومون بإطعام الآخرين ومساعدتهم في حين أبناء بلدنا جوعى ومحتاجون؟".

نحن ننسى طبعا، ننسى، فما هي النعمة التي نحن أصحابها في الواقع أو نمتلك منحها أو منعها حتى نحسد الأخرين عليها؟ فكل ضيف يأتي ويأتي رزقه معه، ولا يأكل شخص رزق شخص آخر،  فأين ما علمنا إياه رمضان من خلق تحمل مسؤولياتنا تجاه الآخرين؟ لقد ذكّرنا شهر رمضان قبل 11 شهرًا بكل وضوح بكل هذه الأخلاق والمبادئ وعلمنا إياها، كم نحن سريعو النسيان؟ كم أصبحنا أسرى لحب الذات وإراحتها! كم بتنا قاسين وجشعين ومتهورين!

كم انسلخنا عن ذواتنا وانقطعنا عنها؟

ليس من فراغ نحن ندعوا الله تعالى بأن يبلغنا رمضان شهر الرحمة، فالعارفون يعرفون الرحمة والنعم التي يحتويها رمضان، وبالتالي يعرفون الحكم العميقة التي يتضمنها الدعاء.

ها هو رمضان قد جاء، لقد اتسخنا بذنوبنا بما فيه الكفاية ونسينا كثيرا، لقد سقطنا في الغفلة بما فيه الكفاية، فلينقذنا رمضان وليحفظنا الصوم من الزلل. فليتحرر وجودنا، وليعيدنا رمضان لأنفسنا وإلى ربنا.

ياسين أقطاي

 

 
Whatsapp