تشغل منطقة إدلب وجوارها في الشمال السوري، الحيز الأوسع في اهتمامات الأطراف ذات العلاقة بالقضية السورية في مستوياتها المحلية والإقليمية والدولية، وهو انشغال طبيعي، باعتبار أن ما سيؤول إليه الحال في إدلب، سيرسم خطوات أساسية في مسار الحل السوري، لأن إدلب تمثل حالياً نقطة احتدام الصراع في سوريا وحولها.
ففي إدلب وجوارها، تتمركز اليوم القوة الرئيسية لـ«هيئة تحرير الشام» («النصرة» سابقاً) وأخواتها مثل «حراس الدين» الذين خرجوا من خاصرة «الهيئة»، دون أن يشتبكوا معها، ووقعوا معها اتفاقات تؤهل لتعايش بينهما رغم الخلاف. وإضافة لقريبتي «القاعدة»، فثمة خلايا شبه علنية وأخرى نائمة لكل من هب ودب من تنظيمات مسلحة، ما زالت لديها أو لدى داعميها طموحات في لعب دور في القضية السورية، وفق ما يمكن أن تتطور إليه في المراحل المقبلة.
وتحتشد في محيط إدلب قوى صراع متعددة، منها في الجنوب والشرق قوات نظام الأسد وحلفائه الإيرانيين وميليشياتهم، فيما يتمركز حلفاؤهم الروس بالقرب منهم في قواعد قريبة، وتوجد في المنطقة القريبة شمالاً «قوات سوريا الديمقراطية»، المحكومة بـ«حزب الاتحاد الديمقراطي »، والمتحالفة مع الولايات المتحدة، فيما تحيط القوات التركية بغالبية إدلب وجوارها من الشمال والغرب مدعومة بقوتين؛ أولاهما نقاط المراقبة التركية الـ12 المشكلة استناداً إلى مقررات آستانة، والثانية مجموعة من تشكيلات مسلحة للمعارضة السورية، أثبتت حضورها إلى جانب تركيا، وشاركت في عمليتي «درع الفرات» و«غصن الزيتون".
كما هو معروف، فإن القوى الموجودة في محيط إدلب، ترسم سيناريوهات وأدواراً لما يمكن أن تقوم به عند ساعة الصفر، وإذا كان الهم الرئيسي للنظام وحلفائه السيطرة على إدلب، فإن هم الأتراك الأول الحصول ما يزيد من عوامل قوتهم في القضية السورية، فيما سوف تسعى «قوات سوريا الديمقراطية» للوقوف في وجه أي ارتدادات لانفجار الوضع في إدلب، خصوصاً مع احتمال تحرش تركي، يكون بوابة لتوجه القوات التركية نحو شرق الفرات.
وبموازاة تلك الاحتدامات السياسية القائمة والاحتمالات العسكرية بصدد إدلب ومحيطها، تعيش الأخيرة واقعاً ملتبساً في ظل سيطرة «هيئة تحرير الشام»، وصنيعتها «حكومة الإنقاذ»، التي تشكلت في أواخر عام 2017 لتكون الواجهة العلنية للهيئة، وساعدها الأخير في إحكام سيطرتها الإدارية والوظيفية على المنطقة، بل إنها وسعت نفوذ «حكومة الإنقاذ» في الريف الحلبي المجاور، وقلمت وجود الحكومة السورية المؤقتة التابعة للائتلاف، وأجبرتها على الاستقالة.
لم يكن إعلان «الهيئة» لـ«حكومة الإنقاذ» مجرد واجهة مدنية للهيئة، بل كان أداة تطبيق سياستها في التعامل مع المجتمع بفئاته وفعالياته، وأن تكون بديلاً أفضل عن الحكومة المؤقتة التابعة للائتلاف الوطني، لكن ما أكدته تجربة العام ونصف العام الماضيين، أنها أسوأ، فقد كانت صورة مشوهة عن صانعيها في «هيئة تحرير الشام»، بما تحمله من تشدد وتطرف، وما تمارسه من إرهاب، تستمدها جميعاً من تجربة وإرث «القاعدة» التنظيم الأم لـ«جبهة النصرة".
وكان من الطبيعي في ضوء الحقيقة السابقة، أن يتركز جهد «الهيئة» وصنيعتها «حكومة الإنقاذ» على تمكين قبضتهما على إدلب وجوارها، والتمدد خارجها، إذا كان بالإمكان، ومنها يمكن فهم السياسات المتبعة، والإجراءات المطبقة، حيث عملت «الهيئة» على إزاحة منافسيها من التشكيلات المسلحة، وأكبرها «الجبهة الوطنية للتحرير»، وفرضت سيطرة شبه كاملة على المنطقة، وأسست «حكومة الإنقاذ» لمزاحمة وحل الحكومة المؤقتة، وسيطرت على المجالس المحلية، بل إنها دفعت حكومتها لإحلال واعتماد راية جديدة، مكان علم الثورة الذي توافقت أغلبية السوريين على اعتباره رايتهم في مواجهة علم نظام الأسد.
ترافق خوض «الهيئة» وحكومتها صراعاتهم مع المنافسين العسكريين والسياسيين، مع مساعي ضبط المجتمع وحركة فعالياته السياسية والمدنية وسط فلتان أمني، عزز فرصة تعميم أجواء التشدد والتطرف والإرهاب من جانب «الهيئة» وحكومتها، فتزايدت عمليات الخطف والاغتيال والاعتقال والتعذيب الذي بلغ حد الموت في العشرات من سجون إدلب ومحيطها، والتي تتبع شكلياً وزارة العدل في الحكومة، لكنها من الناحية العملية تحت سيطرة عناصر «الهيئة»، وتشكل النساء إحدى أهم الشرائح في عملية ضبط المجتمع، ورغم أن مجتمع إدلب ومحيطها مجتمع محافظ، فإن ثمة تشديداً على اللباس والمظهر الشرعي للنساء قريباً مما كان يفرضه «داعش»، وقد أكد منشور لـ«الإنقاذ» أصدرته في آذار/مارس الماضي ضرورة تطبيق «اللباس والمظهر الشرعي» على الطالبات، خصوصاً في الجامعات والمعاهد تحت تهديدهن بعقوبات، تشمل اعتقال أولياء أمورهن.
ويشكل الناشطون السياسيون والمدنيون والإعلاميون فئة أخرى ممن تستهدفهم الهيئة وحكومتها، وللدلالة على نموذج من هذه الاستهدافات، يمكن التوقف عند ناشطي كفر نبل الذين تم استهدافهم اعتقالاً وغيلة في الأشهر الأخيرة لوقف أي نشاط لهم.
الإضافة الأهم إلى ما سبق من سياسات «الهيئة» وحكومتها، تتمثل في السيطرة على موارد المنطقة، والضغط على سكانها لاستنزاف قدراتهم المادية، وتدر المعابر التي تسيطر عليها الحكومة كثيراً من الأموال رسوماً على البضائع والسلع والوقود المتبادلة مع تركيا أو المناطق الخاضعة لسيطرة النظام، وتحدثت تقارير عن دور لـ«شركة وتد للبترول» التابعة لـ«الهيئة» في تهريب البنزين المستورد من تركيا إلى مناطق سيطرة النظام، وتضيف «الإنقاذ» إلى مواردها السابقة، ما تفرضه من ضرائب على المحال التجارية والورشات الصناعية الصغيرة والأفران وغيرها، وكله لا يمنعها من توجيه خطباء المساجد لدعوة الأهالي للتبرع من أجل ما وصفته بـ«التدشيم والتحصين".
خلاصة الوقائع في إدلب ومحيطها، أن «هيئة تحرير الشام» وحكومتها، لا تعطي أي اهتمام لمصير المنطقة وأهلها في إطار القضية السورية، بما في ذلك اعتداءات النظام وحلفائه على المنطقة، إنما تركز اهتمامها على إحكام سيطرتها على المنطقة، وتبذل غاية جهدها للحصول على ما أمكن من موارد دون أن تهتم بإقامة تنمية وخدمات هدفها تحسين مستويات حياة السوريين، وتقويتهم في مواجهة احتمالات هجوم النظام وحلفائه لاستعادة السيطرة على إدلب.
فايز سارة
كاتب وصحافيّ