قدر السوريّ أن ينتصر


مرّة بعد مرّات يتكرّر سيناريو الأرض المحروقة بذات الأسلوب والأدوات، قصف لتجمعات المدنيين والمستشفيات ودور العبادة، ولمراكز الإيواء والإنقاذ والإغاثة، استخدام للأسلحة والذخائر المحظورة والمحرّمة دولياً كالنابالم والفوسفور والكيماوي لإيقاع أكبر عدد من الضحايا بين الفئات الأشدّ ضعفاً من الأطفال والنساء والشيوخ، ولحرق الأرض وتدمير كل ما عليها من مظاهر الحياة وأسبابها، ولتهجير من تبقّى، إنما إلى أين هذه المرّة وقد أصبح الهدف إدلب وريفها وما تبقى من أرياف حلب وحماة واللاذقية.

أرتال من الشيوخ والعجائز ومن عوائل مكلومة، ومن أطفال يتّم وأمهات بلا معيل، تسير بلا هدف سوى أن تتقي الجحيم وأن تحتمي من وحوش السماء والأرض، تفترش البراري التي ضاقت وتجرّدت حتى من الظلال.

إدلب لم تعد مجرّد محافظة رفضت حكم الطاغية الأسد وثارت على نظامه المافيوي المجرم، لقد كبرت هذه الخضراء وأصبحت بحجم وطن، إنها سورية المصغرة بملايينها الأربع من أهلها وزائريها المهجرين وقد جمعهم معها الهدف الوطنيّ والغاية النبيلة، والمطالب الإنسانية المحقة والمشروعة، وهي الرمز الثوري على جميع الأصعدة الاجتماعية والثقافية والسياسية والمدنية..  

مبكراً أدرك السوريّ أهمية موقع بلده الجيوسياسي الذي تتقاطع فيه ومعه مصالح دولية وإقليمية معقدة، كما أدرك طبيعة النظام اللاوطني لعائلة أسد المؤسسة على الإجرام والعمالة والخيانة، ولم يغب عن وعيه بنية النظام الأمنية وتوازع الولاءات، وبخاصّة في ظلّ ارتهان قرارات حكامه الطغاة للمحتلّ الفارسيّ والروسيّ وللكيان الصهيونيّ الغاصب لفلسطين والجولان، لقد بدأ السوريّ ثورته بالورود والياسمين، وبنداءات تدعو إلى السلام والحياة والتوحّد ضدّ الطغيان، وإلى وطن لجميع أبنائه، ولم يكن لديه شبر من أرض خارج سيطرة عصابة أسد يلوذ بها اتقاء الاعتقال أو الموت، لقد ثار السوريّ على نظام الإجرام مزوّداً بإيمانه بعدالة قضيته دون حسابات للوقائع والتعقيدات، ودون أن يلتفت للساسة المعارضين أو المتلونين ولأطماع بعضهم الشخصيّة ومصالحهم الضيقة، أمّا بعد أن ثبت عجز هذه الطبقة عن تمثيل الثورة ومطالب أبنائها وتفريطهم بكثيرٍ من منجزاتها، فقد بات أمراً لا بدّ منه أن يستعيد أبناء الثورة والمدافعون عنها قرارهم وقدرتهم لتشكيل الهياكل والهيئات والأطر المختلفة سياسياً وميدانياً لتوحيد القوى ورص الصفوف، ورصد الإمكانات وزجّها للوصول بأهدافها إلى مبتغاها.

قدر السوريّ أن يدفع ضريبة كونه سوريّاً، وأن يكون حلمه في الحرية والعدالة شرّاً في عيون الحكام العرب ولدى العديد من جيرانه، ومصدر رعب وتهديد لهم، وأن تكون حريته سبيلاً، إن لم نقل شرطاً، لتحرّر كثيرٍ من الشعوب، ولتحرير فلسطين والأراضي العربية المحتلّة.

ليست مقارنة بين شرّين ولا مفاضلة بين مصدرين للتدمير والموت، إنّها محاولة لترتيب الأولويّات ومقاربة بسيطة لمنهجين في الإجرام المنظّم يمارسهما طرفان، المحتل الداخليّ والخارجيّ، بل إن ما أثبتته الوقائع والأحداث أنّ أنظمة الطغيان هي أداة قذرة بيد المحتلّ الخارجيّ، وهي أشدّ إجراماً ووحشيّة اتجاه ما يفترض أنها شعوبها، ما يدعو للقول أنّ تحرير الوطن من المحتلّ الداخليّ أولوية وأساس لا بدّ من إنجازه لاستعادة الدولة وبنائها على أسس سليمة بعيداً عن الاستبداد والطغيان، لتكون قادرة على تحرير المغتصب منها من المحتلّ الخارجيّ.

قدر السوريّ أن يدفع، وحده، ثمن حلمه دماً وألماً وتدميراً وتشريداً وحياة كثيرٍ من أبنائه وأهله، وأن تجتمع قوى الظلم والشرّ لوأد تطلعاته الإنسانيّة الخيّرة بالعيش في وطن يحمي وجوده وسلامته ويصون كرامته ويضمن حقوقه كمواطن وإنسان.

لا أعتقد أن ثمة مكان للقلق لدى السوريين، فالحزن والأسف والغضب مشاعر تطغى على مشهد أحاسيسهم، بعدما لاقوه من أهوال وما تعرّضوا له من جرائم إبادة واعتقال وتعذيب وتهجير وتدمير ومصادرة لممتلكاتهم، وكثيراً ما يبرز السؤال حول ما يمكن أن يخسروه بعدما فقدوا كلّ شيء، أما التساؤل حول إمكانيّة استعادة ما سلب منهم، وطنهم وحلمهم في العدالة والحرية، ومشروعهم في التغيير الديمقراطي فذاك بالضبط ما يحتاجون إلى الإجابة عنه والسعي لترجمته واقعاً على الأرض، إنّه أمرٌ ممكنّ ولا مفرّ من مواجهته.

قدر السوريّ في ثورته أن يكبر على مأساته وأن ينتصر.

 

علي محمد شريف

رئيس القسم الثقافي

 
Whatsapp