الحاكم الإنسان.. الحاكم الخادم


"لا أريدكم أن تعلّقوا صوري على مكاتبكم فأنا لست ربّا، ولا نجماً، أنا مجرّد خادمٍ لهذه الأمّة، بل علّقوا صور أطفالكم على مكاتبكم وانظروا إليهم كلّما هممتم باتخاذ أي قرار".

عبارات تمّ تداولها مؤخراً عبر وسائل الإعلام ومواقع التواصل نقلاً عن رئيس أوكرانيا الجديد.

لا يمكن إدراج ما قاله الرئيس "فلوديمير زلينسكي" في خانة الإبداع الفكري أو الفني أو الأدبي، فما ورد من كلامه ليس لغة بيانيّة تحفل بالصورة والمجاز، ولا خطاباً إنشائيّاً مدبّجاً يحمل الوعود والوعيد، إنّه ببساطة شديدة يتوجّه بتمنيات تحمل معنى الرجاء إلى مواطني دولته، سواء منهم الذين منحوه ثقتهم أو أولئك الذين صوّتوا لمنافسيه، بالنظر إليه كإنسان وكموظف ملتزم بخدمتهم، وأن تكون قرارتهم حرّة ومسؤولة دافعها المصلحة المبنية على التفكير بمستقبل الأجيال القادمة، لا أن تكون مجرّد إذعان لرغبة الحاكم بدافع التقديس والخوف أو تحقيقاً لمصالح ضيقة، وبالرغم من بساطة الكلمات وطبيعيتها، وما تشي به من تواضع قائلها فإنّ قراءة متأملة لعبارات الرئيس الجديد تكشف عن عمق مدلولاتها وعن اختزانها لنهج في الحكم يستند لرؤية فاهمة وواعية لبنية الدولة والمجتمع الحديثين، ولمفهوم السلطة ومهام الحكومات وأدوارها ومسؤولياتها كما أنها يمكن أن تشكل درساً بليغاً ليس للشعب الأوكراني فحسب، وإنما لشعوب وحكام عالمنا الثالث.

لعلّ أوّل المعاني الظاهرة التي تستدعي التوقف عندها في هذه الكلمات هي رغبة قائلها بأن ينظر إليه كإنسان وأن يقوم بتحمل مسؤوليته في النهوض بأعباء السلطة بهذه الصفة كونه مكلفاً من الشعب ومسؤولاً منه وأمامه، وبأنه يستمدّ صلاحيّاته من الدستور والقوانين التي وضعها وأقرّها ممثلوا هذا الشعب.

رغبة في التجرّد من أيّة هالة أو قدسيّة يمكن أن يحيطه بها العامّة بما تحمله من ثقافة مؤسسة على الخوف من الحاكم نتيجة عهد طويل من الاستبداد في ظل الحقبة السوفياتية وما تلاها قبل أن تشهد أوكرانيا ثورتها التي عرفت بالثورة البرتقالية.

إعادة الاعتبار للدولة بما هي عليه من كونها مؤسسة المؤسسات، وبما تمثله من عنوان جامع وفكرة متأصلة وواقع أبديّ ثابت، وتنزيهها عن شخص الحاكم المتغيّر والزائل الفاني، والعودة بالحكومة إلى موقعها الطبيعي وإلى كونها مجرّد مؤسسة من مؤسسات الدولة لها وظائف ومهام محدّدة تنحصر في خدمة الشعب والحفاظ على الأرض والارتقاء والنهوض بالدولة وأبنيتها المختلفة.

الفصل بين الدولة/ الثابت وبين النظام الحاكم/ المتغيّر يستدعي العمل على القيام بكل ما يرسخ وجود الأولى ويعلي من شأنها ويمنحها القوة والقدرة والمنعة، فتغليب مصلحة النظام على مصلحة الدولة سيضعفها ويطيح بأركانها وصولاً إلى تدميرها.

الدولة بساحاتها وشوارعها العامة وأبنيتها الرسمية ليست منتزهاً للحاكم أو معرضاً لتماثيله وصوره، وحتى في الأماكن الخاصة كالبيوت والمكاتب من يستحق أن توضع صورته هو الطفل الذي يمثل الحلم والأمل بمستقبل مشرق يحفّ به الجمال وينعم بالسلم والأمن والاستقرار والرفاه، ما يحتّم على المواطن أن يفكر في كل لحظة باتخاذ القرار الذي يحقق هذه الغاية ويحثّه على عدم نسيان واجباته اتجاه الدولة والمجتمع لا مجرّد تكريس سلطة طاغية أو ديكتاتور بالإذعان له والخضوع لترهيبه.

إنّ من يتولى السلطة إنسان يصيب ويخطئ ولا يمكن بحال أن ينزّه وأن تسبغ عليه صفات الآلهة المطلقة، ولا ينبغي أن تكون مصلحة الحاكم فوق مصلحة الدولة والشعب، ولا يجوز أن تكون العلاقة بينه وبين مواطنيه مبنية على الخوف والرهبة أو التأليه والتقديس، بل إنّ أساس العلاقة نابع من التفويض الممنوح للحاكم لإدارة شؤون الدولة وتحقيق التنمية في جميع ميادينها السياسية والاقتصادية والخدمية والاجتماعية وغيرها، بناءاً على الوعود التي قطعها في برنامجه الانتخابي وعلى القسم الذي ينبغي أن يبرّ به.

أنسنة الحاكم وتجريده من صفات الآلهة ينزع عنه إمكانية أن يختفي وراء قشرة صلبة من فولاذ الإرهاب والظلم والطغيان، ويمنعه من أن يبني لذاته المتورمة شبكات مرعبة من أجهزة أمنية وعسكرية وجيش من المفسدين والفاسدين مهمتهم تنحصر في حماية سلطته وتأبيدها ولو على حساب حياة المجتمع والدولة.

هناك فوارق أكثر من أن تعدّ بين صورة الأمل والحلم الإنسانيين المتمثلة بالطفل وبين صورة طاغية تخز الروح وتدمي العين وتستفزّ مشاعر الرعب والقلق، بل إن صورة المستبدّ تتجاوز الأطر المذهبة

لتغدو شبحاً لمصاصي الدماء واكلة لحوم البشر لا يغادر تصور المواطن المذعور من إرهاب الطاغية، فكأنّه في كابوس دائم ومستمرّ

علي محمد شريف

رئيس القسم الثقافي

 
Whatsapp