منذ أن حشرت قدمي بفمه بادرني بامتعاضه، لم يكن انتعاله مريحاً، استعصى قليلاً، وضاق حجمه أيضاً على غير المعتاد، بعد الاستعمال المتكرر عادة ما يتوسع فم الحذاء وليس العكس، على كلٍّ، ضربتان على بوزه كانتا كفيلتين بجعله يعيد النَّظر في "تناحته" المستحدثة، ويعود إلى سابق عهده نوعاً ما، فأتابع إتمام مهمَّتي، أنزل الدَّرج فأشعر بشيء غريب لم أجد تفسيراً له في حينه، لكنِّي لم ألق للأمر بالاً، أصل بوَّابة العمارة الَّتي أسكن فيها، وأحدِّد سمت رحلتي، كانت وجهتي تقع إلى جهة الغرب.
ما إن وضعت قدمي على الرَّصيف وخطوت أول خطوة حتَّى شعرت بالحذاء يعاندني، ويسير باتجاه مختلف، استغربت، ظننت الأمر في البداية مجرَّد تهيُّؤات، فعدت وحاولت أن أخطو صوب الغرب، فعاد لمناكفتي واتَّجه نحو الشَّرق، ما الَّذي يحدث؟ بل كيف يحدث؟ من يقود من؟ ومن ينتعل من؟ أصرخ فيه غاضباً: "أيُّها الحذاء المتخلِّف مشواري في هذا الاتِّجاه، فما الَّذي تفعله؟"، تموء قطة أجفلها صوتي فأنتبه إلى أنَّني ما أزال في الشَّارع.
أضربه بسور العمارة الَّتي أتفيَّأ ظلِّها فيتمرَّد، وقبل أن أفعل شيئاً يبدأ السير مشرّقاَ، تطيعه قدماي رغماً عنهما، أرفع قدماً وأهبد بها على الأرض، أتأكَّد من أنَّني لا زلت أملك السلطة على قدميّ، أعاود تكرار محاولة السَّير نحو الغرب دونما نتيجة مختلفة.
أقرِّر خلعه، وأخلعه فعلاً، يمضي وحده سريع الخطى، أركض خلفه، أمسكه من قفاه ثمَّ أحمله تحت إبطي لأعود إلى شقَّتي حافياً إلَّا من جوربيّ، أضعه في مكانه على رف الأحذية فيهمد بلا حراك، أنكزه، أهزُّه، لا حياة في وجهه الجلدي، ولا في شسعه أو حتَّى شرائطه، يكبر اللغز وتزداد حيرتي.
أنتعل غيره وأنزل الدرج متوجهاً إلى مقصدي، أقف على الرَّصيف لأتأكَّد من أنَّ شيئاً ممَّا حدث قبل قليل لن يتكرّر الآن، لم يحدث شيء بالفعل، أراوح في المكان، تضحك منِّي سيِّدتان تمرَّان على الرَّصيف المقابل، أشعر بسخافة تصرُّفاتي فأرتبك. أتمكّن من تجاوز الأمر، أقرّر المضيّ من جديد نحو هدفي غرباً، أكاد أشرع في المشي فأتقهقر إلى الخلف، أتسمّر في مكاني، أنظر إلى حذائي البديل بدهشة، ليس مذنباً، هو وقدماي في الاتجاه الصحيح، لكنّ ما يسحبني للوراء هو الرصيف!
يزداد ارتياعي فأقرِّر إلغاء الزِّيارة:
"لا شرق ولا غرب. إلى البيت وحسب".
أصعد الدَّرجات قفزاً، أخلع حذائي السَّاكن وأضعه بجانب المتمرِّد، وألج غرفتي، ألتفت لأغلق الباب ورائي فأجد الحذاء المتمرِّد يمدُّ لي لسانَي فردتيه، أصفق الباب محتفظاً لنفسي بحقِّ الرَّدِّ، ألجأ إلى السَّرير لأندسَّ تحت الغطاء مختبئاً، " ما الَّذي يحصل؟ متى كان الحذاء هو الَّذي يقود البشر، وكيف للرَّصيف أن يحدِّد جهة سيرهم؟ ماذا يحدث للعالم؟".
أغفو وأنا أهذي وأتمتم، أمضي اليوم كاملاً في رحاب النَّوم.
في الصَّباح أجرُّ جسدي كي أركن رأسي إلى مسند السَّرير، ينتابني إحساسٌ حالم لا كُنه له، أطلُّ من شرفتي العالية، أبتسم للوجوه الآدميّة المندهشة من حولي، العمارة صارت في حيِّ السَّفارات، وتحت أنظاري يعبر بانتظامٍ قصر الحاكم.
محمد أمين الشامي
أديب وقاص سوري