البعد الجمالي بين الكتابة والفن التشكيلي


الفن التشكيلي لغة قادرة على تقديم قراءة بصرية ومتعة لا تقدمها باقي الفنون، وقد بات طبيعياً أن نرى آلاف الزوار يقفون في طابور طويل في المتاحف أمام لوحات كبار الفنانين ممن أثرَوا الإنسانية بإبداعاتهم.

أما متعة الكتابة فهي مختلفة ومدهشة بآن، ولعلّ ميزة الفن بكل أجناسه أنّه يَرقى بنا بجناحي الواقع والمتخيّل إلى أعلى درجات الإبداع، وجناح الواقع هنا هو العالم اليومي الذي نعيشه، أما الجناح المتخيل فهو العالم المفترض الذي يخلقه المبدع ليوازي به عالم الواقع المتأزم، وإن كان المطلوب منا كفنانين وأدباء بعد تهجيرنا وإبعادنا عن الوطن هو الفاعلية الإنسانية أولاً ثم الجمالية الإبداعية.

حين شرعت بتأليف أول رواية في حياتي انشغلت باللغة وبإعادة صياغتها بعيداً عن لغة التشكيل وتهويمات اللون، وعن لغة الغموض في ضربات الريشة والإزميل، حالماً بكتابة رواية (تشكيلية) بلغة نظيفة محاولاً الاختلاف عن أقراني التشكيليين الذين سبقوني وكتبوا الرواية وحمّلوها تناغماً جمالياً بين اللون والكلمة.

أقول لغة نظيفة لأننا في لغة التشكيل نستخدم مصطلح اللون النظيف واللون المتسخ، ولا أظنه يبتعد كثيراً عن لغة الكتابة فأنا على رأي محمود درويش، أريد (لغة تسندني وأسندها، وتشهدني وأشهدها على ما فينا من قوة الغلبة على هذه العزلة الكونية).

لقد أفادتني دراستي لتاريخ الفن وتدريسي لفن الرسم والنحت في أنّهما ساهما كثيراً في تكثيف الرؤى الشعرية في مخيلتي، وأنّه من غير المستحيل ترجمة لغة الرسم أو النحت إلى لغة الأدب، وأن الذي يعطي قيمة العمل الفني هو تميّزه عن غيره بصفات جديدة، وأنَّ العمود الفقري لأي عمل إبداعي هو الفكرة والأسلوب.

     والفنان ليس مجبراً على التنظير لتجربته الإبداعية حيث تشكِّل اللوحة والمنحوتة وسيلته الأساسية للتعبير والتواصل.

كنت حين أغضب أو أحزن أو أفرح ألجأ إلى الطين أصادقه بعد غياب أمدده على طاولة الذاكرة، أعجنه برفق وأكسب ثقته ثم أمنحه الحركة فيمنح روحي الدفء، فهو صديق الطفولة، منذ أيام تل مريبط، أشكّل منه تماثيل فرحة أو حزينة أو غاضبة، ثمة علاقة وطيدة بين الفكرة والمادة الخام، ولعل المادة الخام بدءاً بالقلم والورقة ثم الصلصال فالحجر مروراً بالكاميرا، وليس انتهاءً بشاشة الكمبيوتر، هي التي تؤثر تأثيراً كبيراً في تحرير الفكرة من الدماغ محرضة الأصابع والمشاعر والأحاسيس والمخزون الثقافي على صقل العمل الفني.

ليبقى السؤال يزنُّ في الدماغ: ماذا تريد من كلِّ الترف العابث؟ هل تنشد المتعة؟ هل تبحث عن الدهشة في عيون الآخرين؟ أم هي الطفولة ما زالت تقبع في داخلك؟ أم لعلك تبحث عن خلاصك الروحي من أعباء الحياة قبل أن تطحنك عجلتها؟

في الحقيقة لم أحصل على الإجابة أبداً، ربما هي كل ذلك، فما كنت أدركه أنني كنت أجرِّب، أجرِّب فقط أن أعيش عمراً آخر فيما أنتجه من أعمال، وأختبر مقدرتي على إسعاد الآخرين، وعلى الأصح إسعاد نفسي من خلال الفرح المرسوم في عيون العابرين لذاتي وهم يروني أوزعها قطعاً نحتية على مساند من حجر.

لعل ذلك لم يرض غروري في أن أنفتح على تجارب الحياة والتجارب الإبداعية المختلفة، فكان ميلي إلى كتابة الرواية معتمداً تارة على سيرتي الشخصية، وتارة على خيالي، مستخدماً أسلوب التداعي (الفلاش باك) كطريقة فعالة في الانتقال بين زمن الحدث الحاضر والأزمان المتخيلة، تماماً كما كنت أفعل وأنا أرسم أو أكوّن كتلاً من الصلصال أعجنها ثم أوزعها قطعاً مدروسة على جسد العمل ثم أقتطع بعضها لتشكل في النهاية حركة متناسقة في الفراغ، تاركاً للمتلقي أن يعرف بفطنته كم هو مضنٍ ومجهد أن يكون المرء فناناً تشكيلياً وروائياً بآن.

حين بدأت أرسم صور الشخصيات الرئيسة في روايتي (اللحاف) كانت السطور الأولى تنفلت من بين أصابعي ككتل الطين معجونة بتجربتي الفنية أشبه بسفر طويل في طريق وعرة، دفعتني بعد الانتهاء منها لأن أتفهم الآخرين والأشياء بشكل أعمق، فكثيراً ما كنت أكتب مشهدين قاتمين متجاورين يملآن القلب حزناً فأضطر لفصلهما بمشهد فرح مستفيداً من خبرتي في التشكيل فحين يستوقف نظري لون قاتم بجوار لون قاتم آخر في اللوحة كنت أقحم لوناً ثالثاً بينهما من شأنه أن يخلق شكلاً أجمل.

ومما تعلمته من مخزوني التشكيلي وأسقطته على كتابة الرواية هو ألا أمضي في عملي مفكراً في لون واحد بعينه متناسياً باقي الألوان، فالألوان على رأي بيكاسو (كأسارير الوجه تتغير مع تغير خلجات النفس) والفنان لا يصف الأشكال والألوان والظلال إنما يتخذها أداة للتعبير عن وجدانه.

وملكة الكاتب لا تقتصر على إدراك أصول اللغة ومعرفة قواعدها فحسب، بل تتعدى إلى تفجير ما في اللغة من طاقات تثير كوامن النفس، تحرّكها قوة الخيال بسرد فياض بالصور، وهي جميعها بمثابة الخطوط والألوان التي تتآلف فيما بينها وتتكامل في أعمال الرسم والنحت.

 

أيمن ناصر

قاص وروائي سوري

 

 
 
Whatsapp