للثورة السورية أبناء ورجال هي وحدها التي كونتهم، ودربتهم، وهيأتهم ليمثلوها، ويحملوا رايتها، فتميزوا بالصدق والطهر والبطولة والعفوية، إلى درجة المثالية. برزوا في ميادين القتال، والاعلام، والفن. ارتبط ذكرهم وإرثهم بها، وحملت وجوههم ملامحها، حتى غدوا أيقونات خالدة ورموزًا لها، وصارت أسماؤهم أسماء غير مستعارة للثورة، ولا يذكرون إلا مقرونين بها.
من منا سينسى إبراهيم قاشوش أول فنان ثوري أنجبته الحاضنة الشعبية للثورة في إحدى أبرز قلاع التمرد التاريخية على نظام البعث / الأسد منذ بدايته؟!
شاب مغمور لا يعرفه أحد قبل أن تطلقه الثورة في بواكيرها، فأصبح فجأة فنانًا ذائع الصيت يصدح بلسان السوريين ( يالله ارحل يا بشار ) هذه الأغنية التي أمست لازمة دائمة في كل تظاهرة للسوريين، وغدا القاشوش من أسماء الثورة، ورمزًا من رموز مدينة العاصي العصية على الإسكات والاخضاع .
انتقم منه الأوباش بسرعة، ذبحوه وانتزعوا حنجرته الصادحة الجريئة، لأن أغنياته أوجعتهم أكثر من البنادق والقنابل، ولكنهم رغم ذلك لم يخرسوا صوته ولن يطمسوا أغانيه الثورية. سيظل صوته خالدًا مهما تقادم الزمن، يذكر مقرونًا بالثورة.
من منا سينسى الفنانين رائد الفارس وحمود الجنيد ...؟! الثنائي الفريد اللذين شكلا ظاهرة فنية فريدة، بالكلمة والريشة والصورة. ابنا كفرنبل الباران الجميلان الجريئان اللذان حملا اسمها إلى أرجاء العالم القصية منافسًا لأسماء مدن المال والبورصات والجذب السياحي، وترجما بإبداعهما العبقري روح الثورة، وخلجات السوريين إلى لوحات ولافتات معبرة وتعليقات لاذعة، بلغات متعددة، اجتاحت الفضاء المادي والعنكبوتي اللا محدود في الزمان والمكان.
الثورة هي التي صنعت رائد وحمود، وخرجتهما من مدرستها، ليكونا رسولين لها إلى العالم، قبل الثورة لم نسمع نحن في سورية، ولا غيرنا في أي مكان باسميهما، ولم نر شيئًا من أعمالهما الفنية المميزة المقترنة نصًا وروحًا بالثورة حصرًا. ولولاها بقيت موهبتهما حبيسة جدران الخوف والقمع وصمت القبور المفروض على السوريين.
من منا سينسى الإعلاميين البارزين هادي العبد الله وخالد العيسى؟! الثنائي الإعلامي اللذان خرجا من رحم الثورة، وتحولا في غضون فترة وجيزة لسانين للشعب السوري المقاوم المطالب بالحرية ينقلان للعالم عبر الفضاء آلام الأطفال والنساء والشيوخ في أحياء حمص المحاصرة، بابا عمرو والخالدية والبياضة، كانت رسائلهما حارة ومؤثرة جدًا، وغير تقليدية، مخضبة بالدموع الحية والساخنة.
على هذا المنوال من منا سينسى عبد الباسط الساروت، الفتى الغر الذي استقطب إعجاب السوريين واستوطن قلوبهم، والأرجح أنه حجز إقامة دائمة في ذاكرتهم الجماعية ووعيهم الوطني، جنبًا إلى جنب مع الرموز والأسماء السابقة ؟!
هذا الفتى الصغير لم يزد على تسعة عشر ربيعًا حين أشعل أطفال درعا عود كبريت الثورة في مدن القش والخشب والموت المقنع، فتحول بسرعة من نجم لكرة القدم، إلى نجم لأناشيد وأغاني الثورة وهتافاتها وخطبها البليغة، ثم بطلاً من أبطال القتال والنضال بالسلاح ، يحمل في وجهه وهج الثورة ، وفي صوته أمل النصر، وفي عوده الغض حيوية الشعب الثائر في تمرده وقوته .
لقد حلت روح الثورة في قلوب السوريين بدرجات متفاوتة، كالإيمان بالله، بعضهم وصل إلى درجة اليقين والتجرد، وبعضهم أقل، ثم أقل وهكذا.
عبد الباسط واحد من هذه القلة المتميزة، أو الفصيلة النادرة، هؤلاء الذين تلبستهم روح الثورة، واستولت على قلوبهم وعقولهم، وعلى كل خلجة من خلجاتهم، فغيرت حياتهم وسلوكهم. غدت أجسادهم أجسادًا للثورة تمشي على الأرض، وأرواحهم أرواحًا لها تحلق في سماء الوطن، وأصواتهم أصواتًا لها، وعيونهم عيونًا لها، وأسماؤهم عناوين لها.
من يتأمل كيف تحولت حياة عبد الباسط وحياة أقرانه - الذين ضربناهم مثلًا - بعد الثورة سيكتشف عمق إيمانه بها وصدقه وإخلاصه وتجرده. هؤلاء رسل الثورة السورية الذين حملوا رسالتها وعبروا عن مظلومية الشعب المنكوب إلى القاصي والداني، بتفان استثنائي.
كان لكل واحد منهم مسار آخر في الحياة، هادي العبد الله درس التمريض، وعبد الباسط هيأ نفسه ليكون لاعب كرة عالميًا، وعمل إبراهيم قاشوش رجل إطفاء، وكان رائد الفارس ناشطًا حقوقيًا.. إلخ ولكن الثورة أعادت تصنيعهم، رسمت لهم مسارات بديلة، اصطفتهم ليكونوا أبناءها البررة، ورسلها المخلصين. سكنتهم وتلبستهم حتى أصبحوا وجوهًا لها، وألسنة ينطقون باسمها وباسم شعبهم، وضمائر متصلة بها. (منهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر، وما بدلوا تبديلًا).
رحمهم الله، والبقاء للأمة التي أنجبتهم وجادت بهم. الشعب السوري أمة عظيمة، غنية بأبنائها، كانت ثروتها الكبرى دائمًا هي الإنسان الذي لا يلين ولا يستكين ولا يقبل الهوان والذل والعبودية، والثورة هي خصيصة من خصائصه الثابتة، وعنصر من عناصر جيناته وكرياته البيض والحمر وغدده الموروثة والمورثة.
محمد خليفة
كاتب وصحافي سوري