يُعبر غالبية الثوار السوريين عن حزنهم وتأثّرهم العاطفي الشديد ما إن يذاع نبأ وفاة شخصية تركت انطباعاً متميزاً خلال مراحل الثورة السورية، لا سيما الفاعلة منها داخل الأوساط الثقافية والفنية والسياسية، ومختلف المجالات الأخرى، والمعروفة منذ ما قبل اندلاع الاحتجاجات في ربيع عام 2011.
طبيعي أن نجد تفاوتاً في التأثّر بين شخصية وأخرى تبعاً لنشاطها خلال الثورة ومدى تغلغل سيرتها بين السوريين عموماً؛ لذلك كان لنبأ استشهاد عبد الباسط ساروت النصيب الأعظم من الحزن السوري على مرّ سنوات الثورة، جميعنا لمسنا ذلك بمجرد تقليب صفحاتنا الشخصية في مواقع التواصل الاجتماعي، إذ تحوّلت عن بكرة أبيها إلى صورة عملاقة للساروت، مرفقة بسيرة حياته، ومقاطع أغانيه مع حشرجة الصوت المثير للنشيج.
لم أغلق الصفحة منذ اللحظة التي وصلني فيها خبر وفاته ظهر يوم السبت، وبقيت أتابع ما يصل إليها من منشورات ومشاهد وروابط حتى الساعة الثالثة من صباح يوم الأحد، الذي بدأت أكتب فيه هذه الكلمات بعد صراعٍ مرير مع أعصابي منعني من القدرة على التركيز والكتابة بالصورة المعتادة.
ماذا فعل هذا الشاب، وماذا صنع موته فينا؟
حبست دمعةً قبل تسللها من عيني حين بلغني نبأ وفاة مي سكاف، بسبب معرفتي بها على ما أعتقد، وأذكر أني بكيت يوم استشهد صديقي المقرب جداً “أنس طعمة” بشظايا قذيفة هاون مطلع العام 2013، وهذا طبيعي، وحزنت أحياناً كثيرة على أشخاص كثر في أوقات متفاوتة.
لكن، ما الذي أجبرني على البكاء بين الحين والآخر، وذرف الدموع لأجل الساروت طيلة هذه الساعات، وهو الذي لم ألتقِ به مطلقاً ولم أسمع شيئاً من أغانيه الخاصة به في حياته، وكل ما سمعته كان أغنية “جنّة يا وطنّا” في بدايات الثورة برفقة الراحلة فدوى سليمان، وحتى هذه الأغنية كنت قد سمعتها مراراً في أيام طفولتي بصوت صاحبها المطرب أسعد الجابر.
لا أنكر أن الأغنية كان لها الوقع الخاص بصوت الساروت، ولكن بالتأكيد لم تكن سبباً في إثارة بكائي، فأغاني القاشوش مثلاً كانت أقرب إلى نفسي، ورغم ذلك لم تؤثّر بي وحشية اقتلاع حنجرته بقدر موت الساروت، هل كان لقيادته التظاهرات السلمية الأولى دورٌ ما في تأثّري الشديد بموته؟ كذلك لا أظن، فغياث مطر ابن داريا كان رمزاً لسلمية التظاهرات وورودها الحمر، ولم يبكني موته تحت التعذيب بقدر ما أبكاني الساروت، هل كان لحصاره وتجويعه داخل حمص القديمة وترحيله لاحقاً إلى ريفها أثر في ذلك؟ بالتأكيد لا، فهو ليس استثناءً من بين المهجّرين في حلب والغوطة والقلمون وغيرهم.
هل كان لاضطراره على حمل السلاح ومتابعة نضاله ضد النظام ومحبة رفاقه له والتفافهم حول قيادته في “جيش العزّة” دور في ذلك أيضاً؟ أعتقد بأن “حجّي مارع” قد سبقه في هذا الدور ومع ذلك مرّ خبر وفاته دون أن أذرف دمعة واحدة، كما ولستُ من هواة السلاح والعسكرة ولا أشجعهما، على الرغم من عشقي اللامحدود للعقيد يوسف الجادر “أبو فرات”، باعتباره رمزاً خالصاً من رموز الوطنية قلّ نظيره على مر تاريخ الثورة السورية.
الذين مررت على ذكرهم، والكثيرون غيرهم، سبقوا الساروت، واحتلوا جزءاً يسيراً من ذاكرتنا، وانتزعوا حصة وفيرة من أحزاننا وآلامنا؛ منهم أشخاص ما يزال مصيرهم مجهولاً، كسميرة خليل ورزان زيتونة وناظم ووائل حمادة، وهؤلاء يمثلون ألماً مستداماً سيظل يعتصر قلوب أهلهم وأحبتهم طيلة الدهور والأزمنة. ما الذي جعل من هذا الشاب استثناءً في الثورة السورية؟
عبد الباسط الذي استطاع، ببساطته، جمع كافة مكونات المجتمع السوري في شخصه؛ فكان الثائر، السلمي، المدني ابن مدينة حمص، العشائري ابن العشيرة، ابن الساروت السنّي الذي غنّى مع ابنة سليمان العلوي، السوري الفقير، الجائع المحاصر، المقاتل ضد قوات الأسد والرافض للفصائلية، الذي عرض عليه (المتأسلمون) منصب أمير حمص لينضمّ إليهم فردّهم خائبين بقوله “أنا لا أطلب إمارة أنا أريد الحرية” فصار مطلوباً من تنظيمي داعش والنصرة، والمطلوب من 7 فروع للمخابرات، ورصد النظام مليوني ليرة لأي معلومة تؤدي للقبض عليه. تعرّض لستّ محاولات اغتيال ونجا بأعجوبة، كان بإمكانه العيش براحة ورفاهية في الخارج لكنه أبى إلا تحرير سوريا بالكامل.
هو الذي قال في لقائه الأخير: " لا يجب أن نقصي أي سوري أبداً، لأنها ثورة شعب وليست ثورة فصائل أو ثورة دول أو ثورة أجندات أو ثورة قادة أو ثورة مناطق، وطالما هي ثورة شعب فسوف تنتصر، نحن لا نحارب الروس أو الميليشيات الإيرانية أو العراقية أو اللبنانية، بل هم الذين يحاربون حريتنا، ونحن نقاتلهم لندافع عنها”.
لذلك بكيته، وبكاه السوريون البسطاء، من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، فكان استثناءً في حياته، واستثناء في قلوب السوريين جميعًا.
أحمد طلب الناصر
صحفي سوري