منهل باريش- القدس العربي
فشل محققو منظمة حظر الأسلحة الكيميائية من الدخول إلى مدينة دوما لمعاينة الموقع الذي استهدفه النظام السوري يوم السابع من نيسان (أبريل) الجاري، وتسبب في مقتل 50 ضحية جلهم من الأطفال والنساء، الذين كانوا يختبئون في أحد الأقبية، هربا من القصف الجوي الروسي على أكبر مدن الغوطة الشرقية قرب العاصمة دمشق. ورغم وصول فريق المنظمة إلى دمشق قبل 9 أيام، إلا أنهم لم يتمكنوا من الوصول إلى مسرح الجريمة لمعاينته، بسبب الحجج الروسية عن سوء الأوضاع الأمنية في المدينة. وذهبت الشرطة العسكرية الروسية إلى حد إطلاق النار على الوفد الأمني التابع للأمم المتحدة الذي سبق فريق منظمة حظر السلاح الكيميائي، بهدف عودته ومنعه من الدخول بسبب سوء الأوضاع الأمنية. وعاد الوفد الأمني بعد وصوله إلى ساحة الشهداء وسط دوما، خشية تعرضه إلى الاستهداف المباشر. علما أن الشرطة العسكرية الروسية منتشرة في المكان ولم تتعرض إلى أي استهداف من قبل أي جهة، ما يعزز فرضية إعاقة عمل فريق المحققين الدوليين من قبل الجانب الروسي والنظام السوري.
مصادر محلية في دوما أكدت انتشار الشرطة العسكرية وخبراء روس في مسرح الجريمة، في الأيام التي تلت بدء عملية التهجير القسري من دوما وإخراج مقاتلي «جيش الإسلام». وبث نشطاء من مدينة دوما شريطا مصورا للجنرال الروسي زورين متجولاً في دوما ويدخل المبنى الذي استهدف بالسلاح الكيميائي. وأضاف المصدر، الذي رفض ذكر اسمه، أن الخبراء الروس يعملون على تنظيف المكان ونقلوا فوارغ الصواريخ المنفجرة في المكان. وأضاف: «تعرض الأطباء إلى عملية ابتزاز ومساومة وتهديد من قبل الضباط الروس وضباط أمن النظام، حيث وُعدوا بإعفاءات من الخدمة العسكرية بشكل نهائي وهُددوا بحياتهم وحياة أسرهم في حال خروجهم عن الرواية الرسمية التي يقولها النظام». ولم يقتصر التهديد على الأطباء الذين بقوا في دوما، بل حتى الذين خرجوا إلى منطقة «درع الفرات» شمال سوريا، إذ هدد النظام الذين اصطحبوا أولادهم وزوجاتهم بقتل آبائهم وأمهاتهم في حال قاموا بالإدلاء بأي شهادات أو تصريحات، وهو ما منع أي منهم من التواصل مع وسائل إعلام أمريكية أو أوروبية.
يبدو أن محاولة الروس إعاقة التحقيق كانت وراء تأخير وصول خبراء منظمة حظر السلاح الكيميائي «OPCW» لأن الروس كانوا بحاجة إلى أسبوع آخر حتى يتم التخلص من آثار السارين بشكل نهائي. ويواجه الروس مشكلة كبيرة للغاية وهي العثور على جثث الضحايا الخمسين الذين سقطوا في دوما، فالجهة الوحيدة التي تعلم مكان دفنهم هي التي دفنتهم خصوصا مع ما ترافق من حالة ذعر، ومن غير المعروف بالنسبة للنظام والروس أنه تم دفنهم في مقبرة واحدة أو في مقابر. فالمعلومات المتواترة أن كل الأطباء الذين وُعدوا بإعفائهم من التجنيد الإجباري لا يعلمون أماكن دفن الجثث، حتى عمال المقابر لا يعلمون أي الجثث التي دفنوها هم من ضحايا السلاح الكيميائي ولا يعلمون أسماء الضحايا الذين سقطوا في الأيام الأخيرة بسبب القصف العنيف الذي تعرضت له دوما. قائد الدفاع المدني السوري «الخوذ البيضاء» حسم الجدل بخصوص أماكن ضحايا القصف الكيميائي، وتبنى دفن جثث من قبل عناصره في دوما قبل خروجهم إلى الشمال السوري. وقال رائد الصالح في تغريدة على حسابه الرسمي على تويتر: «لقد قمنا بالإبلاغ عن مكان وجود الضحايا للجنة الأممية، الضحايا الذين سقطوا في دوما نتيجة الهجوم الكيميائي عليهم» متمنياً «أن يسمح النظام وروسيا بدخول اللجنة إلى دوما». وعبر عن خشيته من «التلاعب بمكان وجود الضحايا وطمس الأدلة في المواقع المستهدفة».
في سياق متصل، علمت «القدس العربي» أن فريقا تابعا لمنظمة حظر الأسلحة الكيميائية حصل على عينات من المصابين الذين وصلوا إلى منطقة الباب شمال سوريا، واستمعوا إلى شهادات بعضهم، وإلى شهادة أخرى من المسعفين. هذه المعلومات والأدلة الجنائية حصلت عليها أطراف دولية أخرى في سياق آخر، من الواصلين نفسهم إلى شمال سوريا.
ومن غير المتوقع أن تقوم منظمة حظر السلاح الكيميائي بتحديد الجاني، وتقتصر مسؤوليتها على تحديد نوع السلاح فقط، فتحديد المسؤولية الجرمية هو بحاجة إلى لجنة تحقيق مشتركة على غرار اللجنة التي فتشت في خان شيخون والتي تمتلك صلاحيات أوسع تمكنها من تحديد الجاني، وهي التي انتهى عملها في تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي بسبب الفيتو الروسي.
إعلان الدفاع المدني السوري عن تحديدهم أماكن دفن الضحايا للجنة الدولية، يحمّل المنظمة مسؤولية أخلاقية كبيرة، لكنه سيكشف مقدرة الروس على المناورة في مسألة السماح للفريق الدولي بالدخول من عدمه، وسيزيد من حالة الإحراج التي تتعرض لها موسكو والتي تُتهم من قبل بريطانيا وأمريكا أنها شريكة في جريمة استخدام السلاح الكيميائي، خصوصا بعد القصف الدولي الثلاثي على أهداف تعنى بتطوير السلاح وتخزينه وأمر استخدامه من قبل النظام السوري.
منع دخول فريق المنظمة الدولية أصبح أكثر تأكيداً، فالعبث في مسرح الجريمة وإعلان موسكو عن اكتشاف معامل تصنيع لغاز الكلور في الغوطة، والاتهامات الكثيرة لـ«الإرهابيين» والتي وصلت حد التضارب في التصريحات الروسية، يؤكد أن روسيا لم تستطع تغيير كامل مسرح الجريمة. وحتى تكمل ذلك، بقي لديها خيار نبش كل قبور دوما وفحص الضحايا وتحديد أيهم قضى بالسلاح الكيميائي. وهذا خيار شبه مستحيل يحتاج شهورا طويلة، لا يمكن خلالها أن ينتظر الفريق الأممي على أبواب دوما.